"تمنيت وعمري 15 سنة أن أكون ممثلا سينمائيا، وتحققت أمنيتي، فاشتركت في تمثيل عدة أفلام في إيطاليا وألمانيا، وتمنيت أن أكون مخرجا، فأخرجت أفلاما مصرية من سنة 1927 للآن، لقد تمنيت أشياء كثيرة تحققت كلها والحمد لله" ... المخرج محمد كريم كما قدم نفسه للوسط الفني في الكتيب الدعائي لفيلم "جنون الحب" الذي تم عرضه بتاريخ 2 ديسمبر 1954.
البداية والوقع تحت تأثير سحر الاختراع العجيب
ولد "محمد عبد الكريم" بشارع الهدارة بحي عابدين في 8 ديسمبر عام 1900، وكان جارا ليوسف وهبي، وحكي لنا كريم في مذكراته كيف أصابته لعنه حب السينما من أول يوم شاهد فيه الاختراع العجيب "السينماتوغراف" وهو في سن الثامنة، فتخيل نفسه واحدا من ممثلي تلك الأفلام.
ولم يقف الشغف لديه بهذا الفن الشهير عند حد مشاهدة جميع الأفلام وتحوله إلى وجه مألوف في دور العرض وقتها، لا راح يجمع قصاصات المجلات التي تتحدث عن الأفلام والسينما، ويتقمص الشخصيات التي يشاهدها، ويلتقط لنفسه صورا فوتوغرافية في ملابس وشكل الشخصيات في ديكورات بسيطة يصنعها بنفسه على سطح منزله.
يوسف وهبي ... الصديق مسرح "المصطبة"
اجتمع الجاران محمد كريم ويوسف وهبي على حب السينما، وحولا "المصطبة" أمام منزلهم إلى مسرح قدما عليه بمشاركة "علي وهبي" شقيق يوسف، وزميلهم مختار عثمان، عروضا تمثيلية لأبناء الحي.
وبعد انتقال أسرة يوسف وهبي إلى "حي المنيرة"، تطور التمثيل المسرحي في الشارع إلى إنشاء دار عرض سينمائية في إحدى غرف منزل يوسف وهبي، وكانا يستأجران آلة عرض سينمائي من شركة "جومون" ويتولى يوسف تشغيلها، بينما يقف كريم خلف الستار لتأدية الصوت والمؤثرات مستخدما الأطباق الصيني والأحواض والطشوت النحاسية الصغيرة والماء والبمب والبلي (كانت الأفلام وقتها صامتة)، مقابل مليمين من كل فرد من أصدقائهما وأبناء الحي.
مشوار محبط ودروس في التحدي
في عام 1917 عرف محمد كريم أن بنك روما أسس شركة في الإسكندرية لإنتاج أفلام مقتبسة من قصص "ألف ليلة وليلة"، فراسل كريم الشركة على الفور بخطاب أرفق به 36 صورة في مواقف تمثيلية بأزياء وديكورات مختلفة، فتلقى ردا قصيرا: "لا نحتاج حاليا لممثلين".
فطن كريم مبكرا إلى ضرورة إتقان لغة أجنبية حتى تتاح له الفرصة في العمل بالسينما التي لا يزال عملها مقتصرا على الشركات الأجنبية، فأتقن الإيطالية، وعاود مراسلة الشركة الإيطالية مرة ثانية.
ليتلقى هذه االمرة ردا في 15 مايو 1918 يطالبه بالحضور إلى الإسكندرية (على نفقته الخاصة) للخضوع لاختبار، وبالفعل تم قبوله، وقامت الشركة بتصوير عدد من الأفلام القصيرة، وكان كريم هو المصري الوحيد وسط كل العاملين والممثلين الإيطاليين.
"شرف البدوي" أول أفلام محمد كريم وقصة حذاء "الشاويش"
كان أول دور يقدمه كريم مع الشركة الإيطالية دور "شاويش" في فيلم "شرف البدوي" عام 1918، وقام بشراء حذاء شرطي على نفقته، بعدما أخبره المخرج أن المتفرج لن يفرق بين الحذاء العسكري والعادي في اللقطات المصورة، لكن رغبته في تقديم الدور في أفضل شكل، واهتمامه بالتفاصيل جعله يصمم على ارتداء حذاء الشرطة العسكري، حتى لو كان سيدفع ثمنه من جيبه الخاص.
شارك كريم مع نفس الشركة في فيلم آخر بعنوان "الأزهار المميتة" ووصل أجره إلى 20 جنيها شهريا، لكن سرعان ما صفت الشركة أعمالها في مصر لمشاكل إدارية واختلاسات مادية.
شهد العامان من 1918 وحتى 1920 محاولات عديدة للتواصل مع أي شركة حول العالم، لكن دائما ما كانت مراسلاته تتلقى ردودا بالرفض، حتى عاد للعمل مع الطليان مرة أخرى لكن هذه المرة في إيطاليا، ليسافر للعمل بالسينما بعدما أخبر أسرته أنه مسافر لدراسة الهندسة.
سوء الحظ يلحق به في إيطاليا ... ورحلة قصيرة لبرلين تمتد لـ6 سنوات يعود منها بالعضوية رقم 444 بنقابة الممثلين الألمان
رغم ازدياد خبرته وثقته بنفسه كممثل بعد عام من عمله في ميلانو، واصل سوء الحظ مطاردة كريم، عندما ضربت أزمة اقتصادية شركات السينما الإيطالية عام 1921 - 1922، فلبى كريم دعوة أصدقائه في برلين، ورحل إليها ناويا قضاء إجازة قصيرة، لكنها امتدت لست سنوات مثلت علامة فارقة في حياته.
بعد سنوات من العمل ممثلا في ألمانيا، نجح كريم في الحصول على عضوية نقابة الممثلين الألمان وكان العضو رقم 444 بها.
في هذه الأثناء وتحديدا عام 1925 فكر كريم جديا في إخراج أول أفلامه، وساعدته زوجته الألمانية في قراءة وترجمة المراجع الألمانية، ولازم المخرج فريتس لانج أثناء إخراجه لفيلم "متروبوليس" ليتعلم منه عمليا فنيات الإخراج، ووصف نفسه في مذكراته بأنه خريج "متروبوليس".
كريم يعود لمصر ... طلعت حرب يحبطه ويوسف وهبي يدعمه
في يوليو 1925 قرر "أبو الاقتصاد المصري" طلعت حرب إنشاء "شركة مصر للتمثيل والسينما" برأس مال 15 ألف جنيه، وهو الخبر الذي كان بمثابة الإنقاذ لمحمد كريم، والتقي كريم بالفعل بطلعت حرب أثناء زيارته لألمانيا بعد شهرين لكنه خرج من اللقاء محبطا بعدما أخبره طلعت حرب أن الشركة لا تنوي إنتاج أفلام روائية في المرحلة الأولى.
ورغم عودة كريم لمصر فعلا وتعاونه مع "شركة مصر" بالفعل في تصوير أفلام أشبه بالأفلام التسجيلة (تسجيل زيارة شخصية كبيرة لمكان ما، أو تصوير فيلم عن حديقة الحيوان)، فإن كريم لم يستمر طويلا في التعاون مع الشركة بعدما يأس في إنتاجها أفلاما روائية.
وهنا يقرر صديق طفولته يوسف وهبي أن يغامر بأمواله وينتج أول فيلم سينمائي مصري يكون مخرجه هو محمد كريم، ويبدأ بالفعل في تجهيز فيلم "زينب" 4 أكتوبر 1928.
تصوير "زينب" في عامين بسبب "سمنة" بهيجة حافظ ورفض الفلاحين وضع ماكياج
استغرق العمل بالفيلم 21 شهرًا، ويقول كريم في مذكراته مبررا طول مدة تصوير الفيلم: أن العمل كان شاقا ومتعبا سواء مع الفنانين الكبار مثل بهيجة حافظ بطلة الفيلم، التي رغم وصف كريم لها بأنها "جريئة ... بارعة الأداء ... خفيفة الظل"، ورغم أنها من وضعت الموسيقى التصويرية للفيلم التي كانت تدار أثناء العرض، فإنها كانت سببا لتوقف التصوير لفترات طويلة، بسبب عدم التزامها ومحافظتها على وزنها أثناء التصوير، فكيف تقوم بدور فتاة مصابة بالسل وهي بهذه الدرجة من السمنة؟!
ولما كانت أدوات الإضاءة والتصوير حينها لا تزال بدائية، كانت وجوه المجاميع "الفلاحين" تظهر على الشريط سوداء ولامعة، فقرر كريم أن يضع لهم بودرة بيضاء على وجوههم، فاعتبروا ذلك إهانة شديدة، حتى وصل إلى فكرة أن يقنعهم أنها دقيق استرالي ذو رائحة طيبة فقبلوا.
مجموع الأيام التي دارت فيها الكاميرا لأخذ مناظر رواية زينب 64 يومًا فقط، أخذت مناظر الرواية الطبيعية في جهات مختلفة من القطر المصري، أهمها: المرج - شبرا - قليوب - بنها - طنطا - كفر الزيات - الزقازيق- أنشاص - بلبيس - الجيزة-الفيوم - اللاهون - فيدمن - سلليين - حلوان - إمبابة - الزمالك، قيمة الأجور التي دُفعت للسيارات للانتقال إلى تلك الجهات 480 جنيهًا، بلغ مجموع الحوادث التي حصلت أثناء السفر بهذه السيارات 38 حادثة، الجزء الملون في الفيلم صار تلوينه بمعرفة محلات بباريس بأجرة جنيه عن كل متر".
إعلان عن الفيلم بصورة المعلم صدّيق أحمد الموزع
لم يكن هناك نظام التوزيع الأفلام، ولا علم بأسرار هذه العملية التجارية المعقدة، وقد اضطر يوسف وهبي ممول الفيلم إلى أن يبيعه للمعلم صديق أحمد متعهد الحفلات، الذي نشر إعلانات يطلب فيها ممن يريد استئجار الفيلم أن يراسله على عنوانه بمطبعة الرغائب بشارع محمد المؤيد بمصر تليفون رقم ....".