لا يذكر اسم محمد القصبجي إلا وتلتصق به جملة (الذي أحب أم كلثوم)، وكأن الكتابة عن هذا الرجل العظيم، لا تجوز سوى بالمرور من بوابة هذه المعلومة القابلة للتأويل.
هل كان محمد القصبجي الوحيد من أبناء جيله من الفنانين -وغيرهم- الذي عاش في "خياله" قصة حب لأم كلثوم؟
الإجابة قطعا لا.
فكم من عاشق هام حبا في خياله بمحبوب لم يره من قبل، وكم من محبوب راقب هذا الحب من بعيد مستمتعا به وبغيره، مستسيغا شعور "ملكة النحل"، محلقا في السماء يزهو بتقدم جيش مقاتل من العشاق.
وهذا ليس ضربنا من التخمين، ولنطالع ما كتبه الناقد والصحفي طارق الشناوي في كتابه "أنا والعذاب وأم كلثوم"، عن عدد من أشهر عشاق "الست"، لا علاقة لها بحبهم، سوى استفادتها بفنونهم لإنتاج شهد الملكة:
"عندما قررت كوكب الشرق إعلان خبر زواجها من الموسيقار محمود الشريف، نزل الخبر كالصاعقة على رأس عشاقها، فقد خرج الشاعر أحمد رامي من منزله بالبيجامة هائما على وجهه في الشوارع، وذهب إليها زكريا أحمد في منزلها وشتمها، أما القصبجي فقد اقتحم منزلها حاملا خلف ظهره مسدسا، ليجبر الشريف على إنهاء علاقته بأم كلثوم، لكن سيدة الغناء العربي احتوت الأمر وقدرت مشاعر القصبجي".
كلنا نحب القمر والقمر بيحب مين؟!
هل أحب القصبجي أم كلثوم؟ في الحقيقة فكرة أن كل من كان حولها من شعراء وملحنين كان يحبها غريبة جدا، وتدعو للتساؤل.
لن ندخل لنفتش في قلب أحد، ولن نحكم على مشاعر أحد، لكن بنظرة سريعة على هذا الزمن، الذي ابعتد لدرجة تكفي لرؤيته جيدا، سنتفق على أن فقرة الأربعينيات والخمسينيات يمكن أن نتفق على أن نصفها بـ"زمن الرومانسية"، زمن الحب الصامت، واللوعة المكتومة، والنيران التي تشتعل في الحشا فتخرج أشعار وألحانا، وكما حرقت هذه النيران القصبجي، حرقت زكريا أحمد، وحرقت أحمد رامي، كما احترق العقاد وعشرات غيره بحب الأديبة "مي زيادة".
الزمن الذي كان ينبهر به الرجل عندما يرى سيدة "مثقفة" أو "فنانة" أو "صاحبة رأي" إلخ إلخ، وكن عملة نادرة وقتها، انبهار من الممكن جدا أن يسبب ارتباكا في وصف وفهم المشاعر، وإلا لماذا أحب أم كلثوم كل من عمل معها؟!
خطاباته التي أرسلها لها خلال إحدى رحلات علاجها بالخارج، كشفت أنه كان يراسل نفسه، دون أدني اهتمام أو رد من الطرف الآخر:
"يا سومة هذا هو رابع خطاب أرسله إليك، فعسى أن تكون جميع خطاباتي تصلك بانتظام".
الرجل مستمر في الكتابة وإرسال الخطابات واحدا تلو الآخر، دون أن يكون متأكدا حتى إن كانت تلك الرسائل تصل أم لا!
وفي خطاب آخر يكتب جملة عشق صريحة: "فأنت عندي أغلى من نفسي التي بين جنبي، لا أحرمني الله منك مدى الحياة"
ثم فجأة (وكأنه انتبه) يعود بالحديث من الخاص إلى العام: "والله أسأل أن يبقيك لنا ذخرا وفخرا للشرق وللعالم أجمع يا سومة".
لم تكن "الست" أم كلثوم أبدا طرفا بقصة حب محمد القصبجي، لم تحب أم كلثوم "قصب" ولا غيره، أم كلثوم أحبت نفسها فقط، أحبت فنها وغناءها، وتفردها الذي صنعته بكل هؤلاء المبدعين الذين التفوا حولها، منبهرين بصوت لم يجود الزمن بمثله، وكاريزما تخضع أعتى الرجال، من أبسط رجل يستمع إليها في قريته عبر أثير الإذاعة، إلى ملك مصر والسودان، الذي واجه غضب نساء الأسرة العلومية -وما أدراك ما غضب النساء- عندما سلبت لبّه بحركة ذكية شهدها مسرح الأزبكية، بوصف حضوره المفاجئ لحفلها بـ"ليلة العيد"، ليمنحها دون تفكير لقب "صاحبة العصمة".
كل ما هنالك أنها وجدت ملحنا عظيما مجددا، قدم ألحانا ناجحة لها ولغيرها، ومن الطبيعي أن يحاول المطرب الاستحواذ على صناع الأغنية المبدعين، ليضمن إنتاجا متميزا له، وفي الوقت نفسه يضمن عدم وصول هذا الإنتاج لمنافسيه، وكم من قصص ونماذج لهذا الأمر في تراثنا الفني قديما وحديثا، وهو ما فعلته "سومة".
لا لوم على أم كلثوم إن اهتمت بمحمد القصبجي واستفادت بألحانه المتيمزة التي قدمها لها في فترة مبكرة من مشارها الفني بداية من الطقاطيق الخفيفة "آل إيه حلف مايكلمنيش" 1924، مرورا بـ"لحد أمتى حتداري حبك"، و"ليلة العيد"، و"إن كنت أسامح"، وحتى أسطورته "رق الحبيب"، التي بلغ بها قمة فنية مثلت له لعنة وعقدة، ظل باقي حياته يحاول تجاوزها دون جدوى.
ولا لوم أيضا عليها إذ شعرت أن القصبجي، الذي أبدع أعذب الألحان لها ولغيرها – "امتى هتعرف" و"يا طيور" لأسمهان، و"قلبي دليلي" لليلى مراد"- وصل إلى محطته الإبداعية الأخيرة، وتجاوزه الزمن، وسبقه تلاميذه، هذا هو حال الدنيا.
لكن يمكننا لومها بقوة على رد فعلها العنيف، وطريقة تعاملها القاسية معه، التي لم تراع ما قدمه لها من إبداعات، فكيف يمكن لفنان أن يتخلص بدبلوماسية من ملحن قدم ألحانا للست منيرة المهدية، وصالح عبد الحي، ونجاة علي، وتتلمذ على يديه في عزف العود رياض السنباطي، ومحمد عبد الوهاب، وفريد الأطرش؟!
هل كانت أزمة القصبجي جمودة أم جموح تجديده؟!
تعالوا نعود لأرشيف الصحافة الذي حفظ لنا تفاصيل العلاقة بين أم كلثوم وقصب، وكيف قتلته قبل وفاته بسنين، خاصة تلك الرواية المتواترة التي تقول إنها عندما شعرت أن الزمن تجاوز القصبجي، ولم يعد لديه جديد، مع بزوغ شمس أسماء جديدة في عالم الألحان، فقالت له: "إنت محتاج لراحة طويلة يا قصب" وبعد الراحة الطويلة عاد مهزوما راضيا بالنزول درجة عازف بالفرقة.
وتلك الرواية بحاجة إلى التأمل الهادئ، فأنا لا أميل إلى استسهال ترديد مقولة أن ألحان القصبجي لم تعد قادرة على مجاراة تطور الزمن، وأصبحت "دقة قديمة"، ربما يكون السبب هو العكس تماما، هو رغبته الدائمة والقوية في تقديم الجديد الذي لا يعرفه أحد حتى في أتم وأرفع أشكاله، فالقصبجي الذي قدم موسيقى "الفالس" في "أنا قلبي دليلي"، في أجمل صورها وأتمها تكنيكا من حيث ثبات الإيقاع وتوظيف الكورس، والنجاح المبهر في ظبط إيقاع العناصر الثلاثة (اللحن، وأداء المطربة، والكورس) لا يدل على شيء إلا على تفرد هذه العقلية الموسيقية واحترافيتها وتطورها الشديد.
ما يجعلني مطمئنا إلى هذه النظرية أن السبب المباشر لأزمة أم كلثوم والقصبجي كان ألحان فيلم "عايدة" التي وضعها القصبجي في القالب الأوبرالي، وفشلت جماهيريا وقتها، فالرجل لم يضع ألحانا تقليدية من تلك التي اعتاها الجمهور، وما أسهلها، بل طور وقدم فنا جديدا غريبا على الآذان حينها، منتصرا لرغبته في التطور والتجديد ولو على حساب النجاح المضمون.
التمرد الوحيد ... عتاب الأحبة
عاش القصبجي ما تبقى له من عمره يعمل مع أم كلثوم، حاملا بين أضلاعه قرارها كرصاصة، لكنها ليست كرصاصات الرحمة، وكم من مرة أطلق زفرات الألم وآهات العذاب بصوت عالٍ، كما حدث في حواره مع الصحفي اللبناني عدنان مراد، الذي نشرته مجلة "الشبكة" عام 1958، وحملت كلماته مرارة، تشعر بها (انت الذي لا علاقة له بالأمر) وأنت تقرأ بعد عشرات السنين، فما بالك بصاحبها:
س: عرف نفسك؟
ج: عازف بفرقة أم كلثوم
س: وملحن لأم كلثوم!
ج: ده كان زمان
س: والآن؟
ج: لا.. حلم وراح.. أنا هويت وانتهيت.. لم يبق مني غير أنامل جرداء ورأس أجرد أعمل اليوم حتى آكل غدًا.
س: هل يعني هذا أنك فشلت؟
ج: هذا ما تعنيه أم كلثوم وقد أهانتني أم كلثوم، وهذا يعني أحد أمرين: إما أني فاشل، وهذا رأيها، وإما أنها أصبحت رجعية في لونها وألحانها وغنائها وهذا رأيي.
عجيب أمر هذا القلب، وما الذي يحملك على كل هذا الوجع، لماذا لم تذهب لمئات المطربين والمطربات الذين يتمنون منك لحنا، وبالفعل حققت معهم نجاحات كبيرة، لم يكن القبول بهذا الوضع الغريب من ملحن كبير تنازلا من أجل لقمة العيش مثلا، أو من أجل مسئولية لم يمكنه التخلي عنها، إنها "المازوخية" يا صديقي في أوضح صورها.
عاشها واستمتع بجلد الذات، وتجرع الألم بتلذذ، حتى بعد الصلح الذي تم بينهما، ظل محمد القصبجي عازف عود في تخت السيدة أم كلثوم، يحضر البروفات للتدريب على الألحان التي يضعها تلامذته، حتى مات في مارس 1966 أثناء التدريب على لحن قصيدة "الأطلال"، الذي وضعه تلميذه رياض السنباطي، الذي أصبح ملحن القصائد المفضل لدى أم كلثوم.
وكانت مقدمة الأغنية الموسيقية لقصيدة الدكتور إبراهيم ناجي "الأطلال" تتضمن عزفاً منفرداً لآلة العود، لتخرج الأغنية بعد وفاة القصبجي، بأقل من 10 أيام، بعزف منفرد لنفس المقطوعة لكن على آلة القانون.