هل تتذكر عندما جلس الفنان الكبير فؤاد المهندس وسط بنات الملجأ في مسرحية "هالة حبيبتي" يغني معهن "الطائر الصغير مسكنه في العش"؟؟
هل تتذكر الطفلة ذات الصوت الجميل التي سألها عن اسمها فقالت له: "رتيبة وإنصاف رشدي" وكان الاسم أحد إفيهات المسرحية التي ضحكنا عليها.
من هما رتيبة وإنصاف وما حكاية "بنات رشدي"؟
في أحد منازل الإسكندرية في بدايات القرن العشرين، عاشت عائلة تاجر ميسور الحال يمتلك مصنع حلويات وأربع بنات (رتيبة وإنصاف وفاطمة وعزيزة)، يعيشون منعمين في حنان ورعاية الأب والأم، وجدتهم لأمهم "حفيظة هانم" التي كانت في شبابها إحدى وصيفات زوجة الخديو إسماعيل.
وكعادة البيوت العريقة الثرية في تلك الفترة، ساد المنزل جو من الثقافة وحب الفن، عمقته أكثر الجدة المثقفة، التي كانت تقرأ الروايات الأجنبية التي يتم تمثيلها على مسرح الأوبرا وتحضرها مع زوجة الخديو، السيدة المثقفة التي تجيد الفرنسية والتركية واليونانية، وبعض العربية.
لكن كان للقدر رأي آخر، ولم يدم هذا الجو الهادئ كثيرا، فسرعان ما تعرض الأب لخسائر مادية كبيرة وأفلس مصنعه الذي لم يستطع مجارات الأنواع الجديدة من الحلوى، وأصبح الوضع المادي للأسرة في أصعب حالاته، لتبدأ رحلة "البنات" في عالم الفن.
بطلتا قصتنا اليوم "رتيبة وإنصاف رشدي" لم تحفظ لنا الذاكرة الفنية -للأسف- شيئا من فنهما، وما وصلنا عن فنهما ليس أكثر من قصص وحكايات شفهية، مثلهما مثل مئات الفنانين وآلاف الأعمال التي ضاعت قبل معرفة كاميرات التصوير السينمائي، التي لعبت دور الذاكرة للمحظوظين الذين لحقتهم، حتى أخبارهما وتفاصيل حياتهما وصلت إلينا عن طريق شقيقتهما الصغرى "فاطمة"، التي كتبت لها السينما الخلود، بينما أضاع غياب عدساتها عن الشقيقتين الكبرتين تاريخهما الفني.
عملت الشقيقات الأربعة بالفن، كان لكل منهما وجهتها وميولها ونصيبها من النجاح والشهرة، سبقتهن الشقيقة الكبرى "عزيزة" بالعمل في احتراف الرقص بالإسكندرية، وبعدها انضمت الشقيقتين "رتيبة" (ولدت عام 1903)، و"إنصاف" (ولدت عام 1907) لواحدة من أشهر الفرق المسرحية بالإسكندرية في ذلك الوقت، وهى فرقة "أمين عطالله" المسرحية، وانطلقتا في الغناء والتمثيل، وكان النجاح حليفهما خاصة في ظل ندرة الممثلات والمطربات في ذلك الوقت الذي كان المسرح يستعين فيه في بعض الأحيان بممثلين رجال لتقديم الأدوار النسائية.
بينما ظلت الشقيقة الصغرى "فاطمة" مع والدتها تشاهد ما حققته شقيقاتها، ولم تكن تعرف أنها ستكون أكثرهن حظا، وستكون الوحيدة بينهن التي سيحفظها التاريخ صوت وصورة وسيرة، كبطلة أول فيلم سينمائي عربي "فاجعة فوق الهرم" 1928، وواحدا من أهم أفلام السينما العربية قاطبة "العزيمة" 1939، حتى حملت لقب "سارة برنار الشرق".
مسيرة مسرحية ضاعت قبل توثيقها
ظلت الشقيقتان رتيبة وإنصاف متلازمتين في العمل معظم فترات حياتهما، باستثناء فترات قصيرة انفصلا وعملت كل منهما في فرقة ومسرح مختلف.
عملت أنصاف رشدي عام 1921 ممثلة في "كازينو دي باريس"، وشاركت الشيخ محمد يونس القاضي في تقديم مسرحية "السعد وعد"، أمضت فترة لم تزد عن عام في هذا الكازينو، إلى أن اعتزلت فجأة واختفت لمدة خمس سنوات، قيل عن سبب هذا الغياب أنه كان بسبب تجربة زواج لم تكتمل.
بعد غياب الخمس سنوات عادت مرة أخرى عام 1926 للعمل في المسارح والكازينوهات لكن هذه المرة مع شقيقتها رتيبة، وأصبحت واحدة من ممثلات فرقة علي الكسار بمسرح "الماجستيك"، لكنها لم تستمر طويلا مع الكسار، وتركته مع أول فرصة براتب أعلى.
كانت الخطوة التالية لإنصاف مع فرقة "أمين صدقي" الذي انفصل عن علي الكسار، وكون فرقة خاصة به بمسرح "سميراميس" بشارع عماد الدين، وقدمت معه عدة مسرحيات منها: "الكونت زقزوق"، و"مملكة العجائب"، وظلت إنصاف مع أمين صدقي حتى قررت الاستقلال افتتاح صالة خاصة باسمها عام 1927
إنصاف رشدي تجلس على مقعد "منيرة المهدية" في الـ"بيجو بلاس"
بلافتة كبيرة تحمل اسم "صالة إنصاف رشدي" بدأت إنصاف رحلتها مع البطولة المنفردة والنجاح الخاص، ليجاور اسمها أسماء كبار الفرق المسرحية ويوضع اسمها بين أسماء نجوم الفن حينها في شاع "عماد الدين" معقل الفن والغناء، وكانت الصالة التي استأجرتها إنصاف في الأصل صالة "البيجو بلاس" الخاصة بمنيرة المهدية.
لم تقدم إنصاف في صالتها الجديدة تمثيلا واكتفت بالغناء، وضمت إليها عددا من مطربات تلك الفترة مثل: وجيدة، وروحية، وحكمت الإسكندرانية، وفوزية صبري، ولويزا، ونعيمة، ثم شقيقتها الكبرى "عزيزة رشدي" التي ذكرناها في أول القصة.
أما الشقيقة الكبرى "رتيبة"، فقد تنقلت بين فرق نجيب الريحاني وعبد الرحمن رشدي، إلى أن التحقت عام 1924 بفرقة علي الكسار وأمين صدقي، لكنها على عكس شقيقتها الصغرى "أنصاف" عندما انفصل أمين صدقي عن شريكه الكسار عام 1925، لم تغرها زيادة الراتب الذي عرضه عليها أمين صدقي واختارت أن تظل مع فرقة الكسار، وأصبحت بطلة الفرقة وقدمت العديد من البطولات معه.
إلى أن انضمت إلى إنصاف عام 1929 كشريكة لها، وافتتحتا صالة جديدة في شارع فؤاد الأول (شارع 26 يوليو حاليا) وحملت اسم "صالة رتيبة وإنصاف رشدي"، لكن عمر هذه الصالة كان قصيرا، ولم تستمر سوى ستة أشهر فقط، وتم إغلاقها لحماية الأمن العام، بأمر من حكمدارية بوليس مصر في إبريل 1930، بسبب كثرة المشاجرات والمشاغبات بين زبائنها.
الثنائي رتيبة وإنصاف و4 صالات جديدة في عشر سنوات
4 صالات مختلفة هى حصيلة الثنائي رتيبة وإنصاف خلال حقبة الثلاثينيات، فلم يستغرق الأمر منهما عدة شهور بعد إغلاق حكمدارية البوليس لصالتهما بشارع فؤاد، حتى افتتحا صالة جديدة وتحديدا في يونية 1931، وقامتا باستئجار كازينو "المهدي"، وأطلقتا عليه اسم "صالة إنصاف رشدي" هربا من قرار الحكمدارية الذي ينص على غلق "صالة رتيبة وإنصاف".
في صيف 1932 أجبرت الأزمة الاقتصادية الفنان نجيب الريحاني على ترك مسرحه بالجيزة "الفنتازيو"، فاستأجرته الشقيقتان وافتتحتا "صالة رتيبة وإنصاف رشدي"، واستمرت الصالة بالعمل حوالي عام احد فقط.
ومن الجيزة إلى شارع الألفي، تنقل رتيبة وإنصاف صالتهما، وتقدمان موسما جديدا زاد فيه على نشاط الصالة تقديم المسرحيات، وحمل اسم "كازينو" بدلا من "صالة"، ليستمر "كازينو بديعة وإنصاف رشدي" طوال موسم 1934 – 1935.
آخر ما وصل إلينا عنهما ... وقصتهما مع فوزي الحو (محمد فوزي لاحقا)
مع الوقت بدأت الشقيقتان في توسعة الكازينو وتطوير نشاطه، فكما أضافتا المسرح إلى برنامج الغناء والرقص، شهد موسم 1938 – 1939 (وهو آخر ما وصلنا من سيرتهما في مكتب مؤرخي الفن)، تطوير الكازينو وتحويله إلى كازينو وكباريه، لتقديم الغناء والرقص والمسرحيات والاسكتشات المتنوعة.
عرفت صالات وكازينوهات رتيبة وإنصاف رشدي العديد من الفنانين، كان أبرزهم الفنان محمد الحو (محمد فوزي)، وعندما ذاع صيته وأصبح له جمهوره، اتفقت معه بديعة مصابني على العمل مها في فرقتها مقابل خمسة جنيهات شهريا، لكنه سرعان ما وقع بينهما خلافا تركها على إثره، وبدأ في السعي تجاه السينما.
كان فوزي خلال عمله مع رتيبة وإنصاف تعرف على شقيتهما فاطمة، التي شقت طريقها للسينما، وحسب الروايات كانت تربطمها قصة حب لم تدم طويلا، فلجأ إليها عندما ترك منيرة المهدية، لتساعده للعمل بالسينما، وبالفعل ساعدته وكان أول عمل له بالسينما المشاركة في وضع ألحان أغاني فيلم "الطريق المستقيم" التي غنتها المطربة شهرزاد، جمبا إلى جمب مع رياض السنباطي ومحمد القصبجي، وكتب اسمه على تترات الفيلم "فوزي الحو"، وكانت الألحان البداية، التي وضع فيها قدمه في عالم السينما.
----------------
المصادر:
- "مذكرات فاطمة رشدي"، المحامي محمد رفعت، صادر عن دار "الثقافة" بيروت - لبنان.
- كتاب "مسيرة المسرح في مصر ١٩٠٠–١٩٣٥: فرق المسرح الغنائي" - د. سيد علي إسماعيل – صادر عن "الهيئة المصرية العامة للكتاب"