الموهبة تخلق فنا جميلا، ولا تخلق فنانا ناجحا.
"ليس كل فنان موهوب ناجح، لكن كل فنان ذكي ناجح، حتى لو صاحب موهبة عادية"، قضية منطقية بسيطة أثبتتها الأيام والسنين، وكم من نماذج من مطربين وممثلين كبار يتحدث الناس عن ذكائهم أكثر من الحديث عن موهبتهم.
"كوكب الشرق" جمعت بين الحسنيين كما يقال، موهبة جبارة لا يجاريها موهبة في الغناء، أعجزت المطربين قبلها وبعدها، ووضعت نقطة على سطر مشوارها لم يستطع أحد أن يكمله بعدها، فانتقلوا لسطور أخرى.
الذكاء الفطري الذي ميز تلك الفتاة الصغيرة القادمة من أعماق الريف، مكنها من التحول سريعا من فتاة صغيرة قادمة بملابس غريبة، يطلبها البشوات والأعيان في حفلاتهم كنوع من أنواع التغيير (موضة جديدة)، إلى أشهر وأهم مطربة عرفها العالم العربي في تاريخه.
هذا النجاح لم يكن طريقه مفرشا بالورود، فقد واجهت أم كلثوم مشاكل وصراعات ومؤامرات، وهجوما من النقاد والصحفيين والجمهور، لكنها بهدوء وذكاء نجحت في الخروج من هذه الأزمات واحدة تلو الأخرى أكثر قوة.
من "المونولوجيست" إلى كتائب المحبين ... "بلاط" أم كلثوم يواجه شغب الجمهور
كان الغناء في الحفلات العامة يختلف عن الغناء في الحفلات الخاصة التي اعتادت أم كلثوم عليه، واجهت أم كلثوم مشكلة كانت جديدة عليها، وهى الجمهور الذي كان يثور أحيانا ويشاكس أحيانا، ويصيح ويصعب إسكاته أحيانا أخرى، سواء حضرت متأخرة أو في موعدها، فكيف عالجت أم كلثوم هذه المشكلة؟
اضطرت عائلة أم كلثوم في بدايات عملهم (كان التخت عائليا يضم أم كلثوم وأبيها وأخيها خالد) إلى استئجار مونولوجيست يقدم سكتش ضاحك لإلهاء الجمهور وتهدئته، ومن الوسائل الشائعة وقتها، التي لجأت إليها أم كلثوم أيضا، الاستعانة بمجموعة من المريدين والمعجبين، يصيحون بعبارات الإعجاب ويدخلون في مواجهة مع المتفرجين المشاكسين لإسكاتهم.
وهو ما كتبت عنه مجلة "روزاليوسف" حينها قائلة: "فلم يحظ أحد -ولا حتى الملكة كليوباترا- بمجموعة من المريدين الذين يتفانون في حبه وخدمته أكثر مما حظيت به أم كلثوم".
شهدت هذه الفترة ظاهرة جديدة في عالم الفن، وهى مجموعة من المحبين لكل فنان أطلقت عليهم الصحافة الفنية وقتها ساخرة اسم "البلاط"، يبالغون في مديح فنانهم، وكان هذا الـ"بلاط" يتكون من رجال من عاشقي الفن من رجال الطبقة المتوسطة، دائمي لتردد على المسرح والحفلات، وأصبحوا واقعا في الوسط الفني، لدرجة أن عقود المطربين كانت تضم في بعض الأحيان بنودا تنص على توفير أماكن لإقامة هذه المجموعة مجانا، وفي الصفوف الأولى.
وكان لأم كلثوم بدورها "بلاط" وصفه أحد النقاد قائلا: "فرقة من الواضح أنها تمشي خلفها أينما ذهبت، وتجلس أمامها أو عند قدميها أينما جلست، ومن أراد أن يتأكد يحضر إحدى حفلاتها الغنائية، ويعد الذين يصيحون تعبيرا عن إعجابهم، أو يعد من يجلسون في الصف الأول".
لم يكن الدور المعنوي هو الدور الوحيد للبلاط، فأحد أشهر أعضاء بلاط أم كلثوم وكان يدعى "منصور عوض" كان يروج لأسطواناتها، و"على بك البارودي" الذي تولى تعليمها التعامل مع الحسابات المصرفية، كما كان أعضاء البلاط يتولون الدفاع عنها أمام محاولات الهجوم عليها من مطربة منافسة، والرد على الصحافة إذا ما نشرت رأيا ليس في صالحها.
وحسب مجلة "روزاليوسف"، قام ثلاثة أفراد من "بلاط" أم كلثوم بمقاضاة مجلة "المسرح" عندما نشرت أن أم كلثوم على علاقة مع رجل يدعى حنفي الدريني.
ألا يشبه "البلاط"، بل يكاد يتطابق مع فكرة "اللجان الإلكترونية" حاليا؟!
الانقلاب الناعم ... كيف تخلصت أم كلثوم من أبيها وأخيها
استقلال أم كلثوم عن التخت الذي جاءت معه من الأرياف، يعتبر من أهم المحطات في مشوار أم كلثوم الفني، خاصة بعد انتهاء فترة انبهار الجمهور بالقاهرة بالفتاة البدوية التي تغني مع أبيها وأخيها، وارتفاع أصوات تهاجم الشكل التقليدي وتطالبها بتقديم جديد.
وبقراءة جزء من مقال رئيس تحرير مجلة "المسرح" يتضح حجم التهديد الذي كان يحيط بمشوار أم كلثوم الفني، ويكاد يعصف به وينهيه بسبب الشكل التقليدي الذي كان عليها تغييره في أسرع وقت ... يقول المقال: "أما بخصوص أدائها على المسرح، فإن نقطة الضعف هي السادة "المشايخ"، الذين يحيطون بها، وهم يجلسون كالأصنام في بعض الأحيان ولا يتزحزحون من مكانهم إلا قليلا في أحيان أخرى، ما الغرض من جلوسهم هكذا حولها؟ هل تعرفون أحدا لا يشكو من وجودهم حولها في هذا الوضع المزرى الذي لا يدعو إلا إلى الاشمئزاز؟! ولا سيما عندما ترتفع أصواتهم القبيحة التي تشبه صوت بعير يجأر من كرب ألم به!".
وبالفعل كغيرها من المشكلات التي واجهتها، تصرفت أم كلثوم بحكمة وذكاء، تخلصت من أبيها وشقيقها بهدوء وبشكل ناعم لم يسبب لها أية مشاكل، بل وخرجت لتنسب له سبب التقاعد لحماية صورته قائلة: "كان التخت فكرته وأثر هو أن يعتزل".
وتلخص الحل، الذي تخلصت به أم كلثوم من أعضاء التخت مع الحفاظ على علاقتهم الأسرية جيدة، في الاتفاق على عقد ينص على أن تحتفظ هي بنصف دخلها، وأن يقسم الثلاثة (والدها – شقيقها خالد – أمها) النصف الآخر فيما بينهم، على أن يتكفل والدها "الشيخ إبراهيم" بدفع الإيجار وتكاليف معيشة الأسرة.
كما اشتركت مع والدها في شراء 126 فدانا من مدخراتها، وتولى "خالد" الإشراف عليها، واعتزل والدها الغناء، ليتفرغ للإشراف على شئونها المادية.