كملحن مسكون بأرواح ملوك جن الموسيقيين، ملأ بليغ حمدي العالم بموسيقاه، المتنوعة التى لم تترك منطقة إلا اقتحمتها ورفعت عليها راية من الإبداع ترفرف باسمه ...
ومن بين إبداعاته المتفردة، تقديمه بجانب الألحان الرومانسية الأغاني الشعبية والفلكلور ببراعة لم تتكرر، وكون مع محمد رشدي وعبد الرحمن الأبنودي في مطلع الستينيات ثلاثيا قدم كل أنواع الفلكلور المصري بكافة أرتامه وإيقاعاته وجمله الشجية.
يمكننا اعتبار الإسهام الأساسي الذي قدمه بليغ في الموسيقى هو إيصال الموسيقى والإيقاعات الشعبية المصرية بطريقة تتناسب مع أصوات المغنين الكبار أمثال أم كلثوم، وعبد الحليم حافظ، وشادية، وغيرهم كما اشتهر بليغ بسهولة وبساطة الحانه الأمر الذي يجعل أي متذوق للموسيقي قادرا علي التفرقة بين موسيقاه وأي موسيقي أخري يسمعها.
اليوم نحكي عن أربعة من أشهر قصص بليغ حمدي مع أربعة من أساطين الفن والغناء والإنشاد في مصر والعالم العربي.
"مولاي إني ببابك" بأمر السادات وموافقة "عمامة" النقشبندي
حتى الابتهالات الدينية قدم بليغ أروع ما قدمه المنشد سيد النقشبندي، ومنها: (مولاي إني ببابك - أشرق المعصوم - أقول أمتى - أى سلوى وعزاء - أنغام الروح - رباه يا من أناجى - ربنا إنا جنودك - يارب أنا أمة - يا ليلة فى الدهر - ليلة القدر - دار الأرقم - إخوة الحق - أيها الساهر - ذكرى بدر).
ولتعاون بليغ والنقشبندي قصة طريقة رواها لنا الإعلامي وجدي الحكيم تقول إن لقاء بليغ بالشيخ النقشبندي تم في حفل أقامه الرئيس الراحل أنور السادات في القناطر الخيرية بمناسبة احتفاله بخطبه إحدى بناته، وقال وقتها السادات لبليغ: عاوز اسمعك مع النقشبندي، وربما تكون الكلمة من قبيل المزاح الذي كان يحبه ويجيده الرئيس الراحل، ليرى ماذا سيفعلان، وأمر وجدي الحكيم بفتح استوديوهات الإذاعة لهما، وشعر وقتها الشيخ النقشبندي أنه في ورطة، وقال للحكيم مستنكرا: على آخر الزمن هغني؟! في إشارة إلى أن بليغ ملحن أغاني عاطفية ورومانسية، فما كان من الحكيم سوى أن هدأه وقال له استمع إليه نصف ساعة فقط، ولو لم يعجبك سادخل وأنهي الجلسة بأي عذر.
واتفقا على إشارة إذا أعجبه ألحان بليغ يقوم بخلع العمامة، وإذا لم يخلعها تكون إشارة على رغبته في إنهاء اللقاء وعدم التعاون معه، ويكمل الحكيم قائلا: بعد نصف ساعة دخلت فوجدت الشيخ النقشبندي وقد خلع العمامة والجبة والقفطان وقال لي: يا وجدي بليغ ده جن.
وانتهى بليغ والنقشبندي يومها من تسجيل ستة ابتهالات من بينها (مولاي) الذي أصبح الابتهال الرسمي للإذاعة فترة طويلة، وبقى خالدا رغم رحيل صناعه.
بليغ وكوكب الشرق ... اللحن الذي أجلس أم كلثوم على الأرض
العمل مع كوكب الشرق كان هدفا للملحنين والشعراء، شهادة فنية لا يعلوها شهادة، واعتراف رسمي بقدرات الفنان فيكفي أنه كتب أو لحن لأم كلثوم، وما أدراك ما أم كلثوم، المطرب المؤسسة التي كانت تماثل وزارة كاملة في قوتها وتأثيرها داخليا وخارجيا، أما كيف تعاون بليغ حمدي مع كوكب الشرق في سن مبكرة فلهذا قصة كان بطلها الفنان الموهوب (سابق عصره) محمد فوزي، فعندما شعرت أم كلثوم بحاجتها للتجديد والتغيير والخروج من القالب السنباطي، طلبت من محمد فوزي أن يتعاون معها في لحن، لكن المقادير تدفع فوزي للاعتذار (رغم عشقه لأم كلثوم ورغبته في التلحين لها) وقال لها: "عندي ليكي حتة ملحن يجنن، مصر حتغني ألحانه أكتر من 60 سنة قدام".
وبالفعل التقي بليغ كوكب الشرق في حفل بمنزل الدكتور زكي سويدان أحد أطباء أم كلثوم، وجلس بليغ على الأرض وبدأ في تلحين الكوبلية الأول من أغنية "حب إيه" وسط انبهار وذهول الحاضرين، فما كان من أم كلثوم إلا أن نزلت وجلست جواره على الأرض طالبة منه إكمال اللحن، لتغني أم كلثوم "حب إيه" بنغمات بليغ في ديسمبر 1960 وتحقق نجاحا ساحقا.
وتكررت القصة مرة ثانية بعد عام واحد فقط، عندما أرسلت أم كلثوم في ديسمبر1961 أغنية "أنساك" من كلمات مأمون الشناوي، لمحمد فوزي لتلحينها، وكان بليغ في زيارة لأستاذه وتركه بليغ مع كلمات الأغنية حتى الانتهاء من مقابلة أحد ضيوفه، فأعجب بليغ بكلمات الأغنية وأمسك بعوده وأخذ يدندن الكلمات، وعندما انتهى فوزي من لقاء ضيفه كان بليغ قد انتهى من تلحين الأغنية، واعتذر بليغ لفوزي عن تلحينه للأغنيه، فقام فوزي في لفتة إنسانية تعكس أخلاقه وروحه وعظمته بالاتصال بكوكب الشرق قائلا لها: (بليغ قام بتلحين الأغنية أفضل مني).
امتدت رحلة العمل والإبداع بين أم كلثوم وبليغ من 1906 وحتى 1973، قدما خلالها:
"حب إيه" 1960 – "أنساك" – "ظلمنا الحب" 1962 – "كل ليلة وكل يوم" 1963 – "سيرة الحب" 1964 – "بعيد عنك" 1965 – "فات الميعاد" 1967 - "إنا فدائيون" 1967 – "ألف ليلة وليلة" 1969 - "الحب كله" 1971 – "حكم علينا الهوى" 1973 ليكتب بها بليغ كلمة النهاية وتكون آخر ما غنت كوكب الشرق.
بليغ وحليم ... نرجسية "العندليب" التي هددت العلاقة
الاستعانة بالمواهب فن ومهارة لا يجيدها الفشلة، يقدرها ويستفيد منها فقط الأذكياء الذين يضيف لهم ذكاؤهم مزيدا من النجاح والتفرد، وكانت هذه الصفة من أهم ما ميز العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، الذي تحمس بشدة لبليغ، واستعان أثناء تقديمه بليغ في إحدى حفلاته، بوصف الشاعر الكبير كامل الشناوي الذي كان دائما ما يقول: "بليغ أمل مصر في الموسيقى".
بدأ تعاون بليغ والعندليب عام 1957 بأغنية "تخونوه"، واستمر الثنائي في التعاون حتى منتصف السبعينيات، وقدما معا مجموعة من أروع ما غنى العندليب سواء من أغاني رومانسية أو وطنية، لكن عام 1965 كان مميزا، ويعود هذا التميز إلى تغير طرأ على الساحة الفنية، وهو ظهور المطرب الشاب محمد رشدي الي حقق نجاحا كبيرا بأغنياته الشعبية، بشكل هدد التفاف الجماهير حول العندليب، وهنا قرر عبد الحليم بذكاء الفنان أن يطور ويجدد مما يقدمه ، فقرر تقديم ها اللون الذي يجمع بين الشعبي والرومانسي الذي اشتهر به، وهو ما حدث فعلا عام 1965 حيث قدم مع بليغ أغنيات كل منها قائم على جملة من الفلكلور المشهور، وهى: "أنا كل ما أقول التوبة" و"على حسب وداد قلبي"، و"إن لقاكم حبيبي سلمولي عليه"، و"سواح وماشي في البلاد سواح".
ومن جانبه قدر بليع حليم جيدا، واهتم بتقديم الجديد معه دائما، فاستخدم الموسيقى الإلكترونية لأول مرة في "موعود"، واستخدم آلة الساكس في "زي الهوا".
لكن قصصا وحكايات عديدة حولت تبرير ذلك الجفاء الذي دب في العلاقة بين المبدعين، منها من يتحدث عن غيرة الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب من ألحان بليغ، وحثه عبد الحليم على تأجيل غناء لحن "هو اللي اختار" الذي أعده بليغ ليغنيه عبد الحليم في حفل شم النسيم والاكتفاء بأغنية "فاتت جمبنا" التي وضع ألحانها عبد الوهاب.
وهنا لم يستطع عبد الحليم أن يُغضب الأستاذ عبدالوهاب، وقال لبليغ هنأجل لحنك وهغني لحن عبدالوهاب، فضغب بليغ لدرجة ابتعاده عن العمل مع العندليب فترة طويلة، وذهب لحن "هو اللي اختار" للمطرب الشاب هاني شاكر، لكن هذه القطيعة التي شهدت مشاغبات من الطرفين انتهت، وعاد الصديقان، وكاد بليغ يخسر أم كلثوم بسبب إصراره على البقاء بجوار حليم في لندن في تعبه.
اللحن الذي تسبب في طلاق بليغ ووردة
مرة ثانية يصل الصراع على إبداعات بليغ حمدي الموسيقية إلى نقطة دراماتيكية، لكن هذه المرة اختلطت المنافسة الفنية بغيرة النساء، ففي عام 1984 قدم بليغ حمدي واحدا من أروع وأرق ألحانه وهو "مش عوايدك" لكن هذه المرة لم يكن اللحن لزوجته وحبيبته التي أهداها أنجح وأجمل الألحان طوال ست سنوات، وإنما لفنانة سورية صاعدة تدعي "ميادة الحناوي".
وهى القصة التي روتها الفنانة وردة بنفسها في أحد اللقاءات التليفزيونية قائلة: "رغبتي في أغنية مش عوايدك التي قدّمها بليغ لميادة، وبُعد بليغ عني أثناء فترة مرضي، كانا السبب في طلاقي منه".