يواصل عمرو دياب سرد تفاصيل رحلته ، من كباريهات شارع الهرم نحو النجومية والأضواء ، الأيام العصيبة التي عاشها لكي يصل إلى حلمه مشحونة بتفاصيل كثيرة ، منها قصته مع نبوءة فتاة العجمي ، وحلم الغناء على هذا الشاطيء الشهير الذي تحول إلى حقيقة فيما بعد.
في عام 2007 انفرد الكاتب الكبير يسري الفخراني بنشر مذكرات عمرو دياب، أسرار وكواليس واعترافات مر عليها 14 عامًا، ولكن ما بين سطورها يستحق أن نعيد قراءته مع أجيال جديدة ستعرف الوجه الآخر للهضبة في حلقات خاصة تنشر لأول مرة في المواقع المصرية والعربية على FilFan .
يحكي عمرو دياب :
هل يتحداني قدري؟ هل انسحب من حلم حياتي بدلا من أن انتهى مطربا في كبارية؟
ماذا يحدث لي في عالمي الصغير؟ لو كانت أحلامي صغيرة لكنت استرحت. لكنت اكتفيت بمن يصفقون لي كل ليلة دون أن يروني – حتى- بوضوح.
انني لم اترك اهلي ومدينتي من أجل هؤلاء.. لم أترك دنيتي التي احبها من أجل حلم ضئيل.
داخلي تحد رهيب يكاد يموت.. الحياة تقتله داخلي بأسرع مما تخيلت.
ما هي اخرتها؟
ما هي نهايتي؟
وعدت اعمل من جديد.
شارع الهرم.. الأفراح.. حفلات أصغر كثيرا من أمنياتي.
تحولت إلى شخص آخر.. يسلي نفسه بالفرجة على الناس.. الناس الذين لم أراهم في حياتي.. عالم آخر لم أكن أتصور انه.. موجود.. في مصر.
مصر الموجوعة بالفقر والحرمان والازمات.
شئ مفزع أن تفتح عيناك على هذه الاكتشافات، ووجدت وقتا لأعرف القاهرة التي لا أعرفها.. تاريخها.. شوارعها.. ناسها.. ليلها.. أفراحها.. أحزانها.
ولكنني أعود لنفس النقطة.. شارع الهرم ولا أجد جديدا أغنيه.. نفس الأغاني نفس الحماس ونفس الناس والوجوه والتصفيق.
وأحيانا نفس النهايات المؤسفة، خناقة في المحل تنتهي بهروبي بمعجزة، كان آلما أشد أحتمل!
هل تكفي كلمة العذاب لاصف نفسي بها؟ إنها أقل مما يجب.. ومما أعيشكيف أعود لإلى مدينتي محمولا على الفشل! كيف أعود بهزيمتي؟ ماذا أقول لأمي وأبي وأخي، أنني تركتكم من اجل الغناء في الكباريهات! كيف أوجه البحر وأعود اليه مكسورا بعد ان قضيت ليالي طويلة اعترف له بأحلامي؟
إقرأ : مذكرات الهضبة 1 - عمرو دياب يكتب عن "أسطورة" عبد الحليم حافظ
كان عزائي الوحيد حبا صادقا اعيشه يبدد نصف احزاني.. وبعض أصدقاء مخلصين يمدونني بمزيد من الأمل كلما انهكني الألم.
انها أقسى فترات حياتي.. عشتها معلقابين البقاء والغناء.. بين الحياة والموت.. بين أن أطفو أو أغرق.. وكنت أغرق.
كنت أنتهيت من وصلتي هذه الليلة.
ملهى متواضع أخر في شارع الهرم.. غنيت لعبد الحليم حافظ وبعض اغنياتي.. صفق لي الحاضرون طويلا على غير العادة.. كنت سعيدا بأن الناس سعداء.
وبدأت راقصة درجة ثانية وصلتها.. وطلبت مني أن أغني ورائه! واعتذرت بأدب أنني مجهد!
وأصرت.. وأعتذرت.. وأصرت.. وقلت وانا بين الهدوء والغضب : "معلهش.. أعفيني ما بحبش أغني ورا رقاصة".
وكأنني أرتكبت جناية..صرخت الراقصة.. ولمت كل الحاضرين.. واسمعتني درسا قاسيا لم انسه حتى اليوم!
وهددتني بجرأة إما أغني.. وإما تطردني من المحل، ورفضت..رفضت بإصرار رغم أنني لم اكن في هذا القوت بالذات أغني بانتظام في أي مكان أخر.
وطردوني.
(2)
كانت الصفعة أقوى بكثير من كل الصفعات!
راقصة تتحكم في حياتي!وقلت بتحد: ولو.. حتى مت من الجوع .. وجلست وقتا طويلا بدون عمل.. لا فرح.. ولا ملهى.. خلصت فلوسي.. وتركت الشقة المفروشة التي كنت أقيم فيها وأنتقلت للإقامة مع صديق لي حتى أوفر أجرة الشقة! رغم ذلك كنت قويا.. أو لم اجد إلا أن أبدو هكذا حتى أعيش.
وحدثت صدفة لا أنساها حتى الأن.
قال لي صديقي إية رأيك أنا عازمك نروح إسكندرية سوا؟
إقرأ : مذكرات الهضبة 2 – حكاية أول ألف جنيه وقرار الاعتزال المؤجل منذ 20 عامًا
وافقت بلا لحظة تفكير، كنت ابحث عن أي شئ يغير حياتي.. أي شئ يهزها ويهزني وخرجنا في سيارته الصغيرة إلى العجمي.
العجمي.. شاطئ الحب والأحلام.. سمعت عنه كثيرا.. سمعت عن ناسه وبيوته وسهراته.. ولكنها المرة الأولى التي أراه.
هل يمكن أن أحبه.. هذا الشاطئ المسحور.. كنا في نهايات الصيف وبدايات الخريف.. وبمجرد وصولنا أحسست نفسي شخص آخر.. ضاعت أحزاني.. أنتهى ألمي.. أحببت العجمي.. شلاطئ له جاذبية خاصة.. ومذاق مختلف.
كنا عند الفجر عندما وصلنا إلى هناك.. خلعت حذائي وسرت فوق الشاطئ وابتلت قدماي.. انعشتني لسعة البرد في الماء وتمنيت لحظتها بالضبط أن أسكن هذا الشاطئ في يوما ما..وتمنيت أكثر لو غنيت للناس عنده.. أن أحول الشاطئ إلى حفل كبير.. الناس والبحر والموج والليل والقمر.
ولم أكن أعرف يومها أن أبواب السماء قد رفعت أمنياتي إلى الله.. وأنني سأعود إلى هذا الشاطئ بعد سنوات قليلة لأحقق أمنيتي وأغني على رماله في واحدة من أنجح حفلاتي!
(3)
في نفس الليلة دعاني صديقي إلى فيلا أحد معارفه.
فيلا أنيقة.. صغيرة.. تسكن البحر، أسرة يونانية تعيش بالإسكندرية منذ زمن طويل عرفت انهم يقيمون بالعجمي طوال العام.. انهم يحبونه مثلي.. ولا يستطيعون أن يعيشوا بعيدا عنه.
وأحببت هذا الأسرة جدا.. وأحسست ببساطتهم وتلقائيتهم ورأيت أجمل عيون رأيتها في حياتي.
شابه في العشرين من عمرها.. أو أصغر، ابنه صاحب الفيلا، كانت مثل الحوادث السعيدة التي تقابلك في حياتك.. فتسعدك ثم تختفي.. وكنت أعرف أنني أراها للمرة الأولى وربما الأخيرة.
ولكني كنت احتاج منها أكثر من أن تكون حتى مجرد ذكرى عابرة على شاطئ العجمي.
إقرأ : مذكرات الهضبة 3 - "الأستاذ" ... عمرو دياب في صالون محمد عبد الوهاب
تعارفنا على مائدة العشاء الصغيرة.
اسمي لينا.
وأنا اسمي عمرو.
شايفة فيك حزن بتحاول تخبيه.
هو فيه حد ما فيهوش ولو شوية حزن.
غريبة. أنا بدرس فلسفة واتعلمت منها أن الدنيا اتفه من أننا نعيش فيها لحظة حزن واحدة!
الإنسان ساعات فيه حاجات أقوى مننا بتحببنا الحزن!
الإنسان.. أقوى من الحياة!
ووعدتها أكون أقوى كل ما الحزن يغلبني.. أغلبه.. وكل ما الدنيا تكسرني.. ارجع تاني أقوى.. وأكبر!
وما نستش كلمتها لحظة في عمري: الإنسان.. أقوى من الحياة!
وما اقدرش انسى صوتها وهي بتقرأ كف إيدي.. عندما طلبت أن تقرأ لي كفي.
عادة تعلمتها من جدتها.. وهمست.. جوالك احلام.. وجواك هزيمة.. لو أنتصرت أحلامك هتنجح.. هتحققها.. بابك للنجاح مفتوح بعد يومين.. أو شهرين.. أو سنتين.. من دلوقتي.
بس افتكر أنت أقوى.. أنت أقوى.. بنفسك وأحلامك وارداتك.وخرجت مع صديقي من الفيلا .. كان الفجر وكان البحر، وأخذت أضرب الرمل والهواء.. بقبضتي وقدمي.. لا أعرف من شدة الفرحة.. أم من شدة الحزن.. ولكنني كنت أعرف أنني أولد من جديد!
(4)
القاهرة..
بعد يومين.
أخبرني صديقي بأنه استطاع التوسط لي للغناء في حفل ختام مهرجان القاهرة السينمائي!
مفاجاة مذهلة.. إنها أكثر مما كنت أحلم أو اتوقع.
في نفس اليوم كنت قد تعاقدت على العمل ثلاثة أيام في الأسبوع بأحد ملاهي الهرم.. كنت اطير من الفرحة!
كل الأبواب كانت تفتح أمامي من جديد.
وتذكرت نبؤة لينا بعد يومين.. بعد شهرين.. بعد سنتين.. الأبواب ستفتح.
هل كانت مصادفة؟حتى لو كانت.. فلماذا لا أصدقها.
ذهب للملهى الذي سأغني فيه.. طلب مني صاحب الملهى صورة لي ليضعها على باب الملهى مع صور الفنانين.. وامتلأت بالسعادة أكثر.. صورتي..ساتحول من مجرد مغني عابر على كل ملهى .. إلى مطرب له جمهوره.. ولكنني اكتشفت أنني لا أملك صورة كبيرة تصلح للدعاية.. ووعدت صاحب الملهى بأن أحضر له الصورة في أقرب فرصة.
وأكتشفت في اليوم التالي شيئا أخر: هو أنني لا أملك بدلة لأغني بها في حفل مهرجان السينما.. فقد كنت حتىهذه اللحظة أغني بالقميص والبنطلون.
إقرأ : مذكرات الهضبة 4 – ليلة في قسم "البوليس" على شرف "كباريهات" شارع الهرم
واحترت ماذا أفعل؟ لم يكن معي ما يكفي لشراء بدلة لحضور الحفل.. درت على أصدقائي لأستلف بدلة، واجهتني مشكلة أن كل بدل أصدقائي ضيقة.. لا استطيع حتى الدخول فيها.
وقررت أن أعتذر.. أعتذر عن أهم فرصة جاءت لي حتى الأن..حفل يضم كل الوسط الفني؟
النجاخ فيه معناه النجاح في اشياء أخرى بعد ذلك، وجلست مهموما بعد أن انتهت وصلتي في الملهى..حتى فوجئت بصديق يقول لي: ولا يهمك.. أنا عندي بدلة إنما اية.. وتيجي على مقاسك؟
وصحت بفرحة وانا أكاد احضنه: بتتكلم جد.
فقا وهو يطمئني: جد الجد كمان.. بكرة قبل الحفلة عدي عليا.. والبسها عندي في البيت، ونمت وأنا استرد سعادتي.. فغدا سأغني حفل عمري.
ذهبت لصديقي رحب بي بشدة وقدم لي البدلة ومن أول نظرة أكتشفت أن عمرها لا يقل عن 10 سنوات، الموديل قديم والأكمام دايبة.. ولونها أبيض.. وجلس يراقبني وأنا ألبس البدلة وهو يحلف بالطلاق أنني لولا عزيز عليه ما أعطاني بدلة فرحة أيدا.
ولم يكن أمامي إلا أن اذهب بها.. كان منظري مضحكا جدا.. البدلة واسعة والبابيون اعرض من اللازم وأبدو كجرسونات الملهى الذي اعمل به.
وذهبت للحفل.. واتخضيت!
اتخضيت صحيح!عالم تاني.. أخر موضة..أخر شياكة.. عيون بتلمع.. وابتسامات كأنها امضاءات اوتوجرافات.. وبرفانات.
وفي الرابعة صباحا اذكر ذلك جدا.. جاء دوري للغناء.. مش فاكر غنيت إية؟
بس اللي فاكرة إن دموعي نزلت على المسرح وأنا بسمع التريقة على منظري!
جرحي كبر ميل.. ميل من الحزن والإنكسار!
في الأيام التالية كتب ناقد معروف ما يشبه الإهانة لصوتي ومنظري في مجلة الإذاعة والتلفزيون.. كتب إنني مغني "عجالي" نسبة إلىشكلي وصوتي، وكان اول كلام يتكتب عني لكنه كان قاسي جدا لدرجة لا تحتمل، واسترديت نفسي بالعافية بعد يوم أو اتنين.
افتكرت لينا وهي بتقول لي: الإنسان.. أقوى من الحياة!
وحلفت بكل دمعة وكل لحظة حزن.. وكل قلم أخذته وكل ابتسامة سخرت مني.. أن أكون.. أن أهزم كل اللي هزموني.
قلت يارب.. موش بأنتقم.. بس بأسترد حقي.. بس رافض الإنكسار.. كنت لازم أنجح!
شاهد بعد 30 عاما من هذه الواقعة .. عمرو دياب يغني في مهرجان القاهرة والنجوم يتحولون أمامه إلى معجبين
(5)
شهر بعد شهر!
من كبارية.. لحفلة.. لفرح.. لفندق خمس نجوم!
من نجاح.. لنجاح!
من باب .. لباب!
من شقة مفروشة.. لبيت.. بيتي!
من مجهول.. لمعلوم!
من ضياع.. لوجود!
ماكنش قدامي غير الغنا.. غنيت في كل مكان.
غنيت وبس.. وابتديت تكبر السكك الضيقة.. وتوسع.. تفتح حواريها ليا.. واتخلق لي ناس يحبوني ويساعدوني ويقفوا جنبي.. ويدورا لي على شغل أكتر وأكتر.. غنيت في الف مكان.. بفلوس.. بلاش.. المهم أغني.. صوتي يوصل لناس ما يعرفونيش..كنت بانتحر بانتحر بحب.. وأحسست بالنجاح لما سمعت متعهد حفلاتبيقول عني إني بقيت أحسن مطرب أفراح في مصر!
وابتدى أصحاب الأفراح يطلبوني بالاسم.. رغم أنني لم أكن معروفا على مستوى الناس.
وبعد سنة، دخلت الأستوديو لتسجيل الشريط الثاني.. هذه المرة كان المنتج يراهن على نجاحي!
ونجح الشريط.. ونجح ونجحت معاه.
أصبحت كما كنت أحلم.. في أول المشوار الصح.
سنة أخرى وقدمت شريطا جديدا.. وأصبحت مصر تتكلم عني!
أصبحت مشهورا!
لم يكن يهمني أنني أصبحت مشهورا، بقدر ما كنت أنتظر شيئا أخر.. أن أرد صفعة من صفعوني بأن أقول للذينسخروا مني وطردوني: أنني نجحت!
ولم يمض وقت طويل.. إلا وتلقيت دعوة مفاجأة والنجمة التي سخرت مني في بيت المخرج التلفزيوني الكبير تدعوني لعيد ميلادها.. وقررت أن أذهب.. اشتريت ملابس جديدة لعيد الميلاد.. واشتريت لها هديةتليق بي.. وذهبت.. وكانت المفاجأة الأكبر.. أنني وجدت في بيتها كل من سخروا مني.. أن أجدهم جميعا مجتمعين في مكان واحد.. لأرد كرامتي واعتباري في ليلة واحدة.
استقبلوني بترحاب شديد.. وبإبتسامة طنت أحفظها.. وأبتسمت لهم.. كأنني لا أتذكر أي ش، كأنني نسيت كل الإهانات.
وأصروا على أن أغني..وأعتذرت لقد جئت مدعوا وليس مطربا!
وفهموا أنني أرد الإهانة.. زعرفوا أنني لم أنس!
(6)
وخرجت من الحفل وانا في قمة سعادتي.
أريد أن أطير.. وأقفز في الهواء..وسرت على النيل الذي طالما رأى دموعي وهزيمتي.. يرى اليوم ابتسامتي وانتصاري.
لا أعرف كيف أصف شعوري في هذه الليلة بالذات.. لا أعرف كيف أحول هذه الذكرى إلى كلام يعبر عنها.. وتذكرت لينا العجمي ونبؤتها.. وتذكرت أمنيتي بالغناء عند البحر.
وقررت أن أعود في أقرب فرصة إلى العجمي..لأحقق ما تبقى لي من أمنيات.
وعقلي وقلبي يحدثني بنفس العبارة التي لم تمت بداخلي أبدا: الإنسان.. أقوى من الحياة.
أين أنت يا عزيزتي لينا لأقول لك من جديد عبارتك التي أحيتني: الإنسان.. أقوى من الحياة زاليأس زالهزيمة والإنكسار.. أقوى إن أراد.
ومشيت على النيل الذي عادت أضواؤه في عيني.. وأفراحه إلى صدري.. مشيت.. وأكلت سميط.. وترمس.. وذرة مشوي.. وكنت جوعان.. وكنت فرحان.. وكنت أصالح القاهرة.. مشيت.. حتى طلع النهار.. طلعت الشمس.
شكر خاص للكاتب الكبير يسري الفخراني