هل يمثل عمرو دياب مشروعًا فنيا وموسيقيًا متفردًا ؟
يبدو سؤالا ساذجًا لو طرحناه الآن ، فبعد 35 عامًا وأكثر هي عمر هذا المشوار ، ستكتشف أن عمرو دياب هو المشروع الموسيقي المصري الوحيد "حاليا" المكتمل الهوية والمستمر على مدار ثلاثة عقود ، مدة زمنية كافية لأن نعترف بأن هذا المشروع جزء مهم وأصيل من تاريخ الأغنية المصرية ، بعيدًا عن المحاولات المستميتة طوال هذه العقود للتسفيه والتسخيف من قيمة مشروع عمرو دياب ، محاولات في الحقيقة لم تعبر عن وجود قاعدة نقدية موسيقية في المشهد الصحفي المصري ، باستثناء بعض الاجتهادات التي تتوارى أمام الاكليشيهات المحفوظة والأصوات العالية .
الأن دعني أسألك سؤالًا آخر قد يكون في محله : ماذا تعرف عن مشروع عمرو دياب الموسيقي ؟ وهل مشروع الفنان يجب ألا يكون مشروعًا شخصيًا أو ذاتيا يعبر فيه عن أفكاره هو ورؤيته هو لموهبته ولجمهوره ؟ أعتقد أن واحدًا من أسباب بقاء مشروع عمرو دياب واستمراره ونجاحه يكمن في ذاتيه هذا المشروع وارتباطه بشخص عمرو دياب ، صوته ، أفكاره، ثقافته الموسيقية .
في مطلع الثمانينات كانت الأغنية المصرية تعيش مرحلة تغيير جلد حقيقي ، السبعينات كانت المشهد الأخير في حياة عمالقة الفن ، والساحة تبحث عن أصوات جديدة ، ولغة مختلفة ، ومشروعات موسيقية تملأ الفراغ ، ظهر وقتها محمد منير كمشروع فني مختلف ، ولكنني أرى وكتبت مسبقًا أن مشروع منير الموسيقي لم يكن مشروعه الشخصي بل مشروع آبائه الروحيين مثل عبد الرحيم منصور وهاني شنودة وأحمد منيب ثم يحيى خليل ، كل هؤلاء هم أصحاب المشروع الحقيقيين أما منير فكان صوتهم .
نفس الأمر تكرر مع أصوات أخرى إرتمت في أحضان جيتوهات الثقافة والفن والسياسة وربما الدين أيضًا ، فارتبك مشروعها الغنائي عاما بعد آخر، أعرف مطربًا كبيرًا تحول في عز مسيرته الغنائية الى صوت مثقفي "الجريون" وصالونات وسط البلد الثقافية ، وأصوات أخرى تصوفت وتسلفنت لتصبح بوقًا لتيارات دينية بعينها ، كل هذا تم تحت مسمى المشروع الفني الذي لم يكن مشروعًا في الحقيقة لا لصاحبه ولا لمن أسموه ذلك .
عمرو دياب منذ بدايته فطن جيدًأ لفكرة أن تكون صاحب الرؤية وصاحب المشروع ، أن تكون صوتك ولست صوتا لآخرين ، صحيح أنه تعلم على أيدي الأساتذة الكبار ، نهل من خبرتهم ، درس تجاربهم ، وفهم المعنى الحقيقي للهوية الفنية ، ولهذا لم يتأرجح عمرو على مدار مشواره بين تجارب موسيقية لا تخدم هذا المشروع ولا تعبر عنه ، لم يتورط عمرو في الغناء بلسان الآخرين والتعبير عن أفكارهم ، وهذا دليل على فهمه الكامل لمشروعه الفني وهدفه ، وهو الخروج بالموسيقى المصرية من حيز المحلية والإقليمية إلى رحاب العالمية .
هذا مشروع فني شخصي ، يمكن القياس عليه في مجالات أخرى ومشاريع إبداعية أخرى ذاتية أيضًا، فهل خروج نجيب محفوظ بالرواية المصرية الى العالمية كان مشروعا وطنيًا أو سياسيًا أم مشروعا أدبيًا ومنجزًا شخصيًأ ؟!
الإبداع أرحب وأكثر اتساعا من الأدلجة ومحاولات تحجيم التجارب بالقياس على أزمنة أخرى وتجارب مختلفة ، فقيمة أم كلثوم التي غنت للملك قبل الثورة بالمناسبة لم تنبع من غنائها الوطني لناصر عقب ثورة يوليو ، ولكن الأثر الباقي في وجدان الساهرون في مقهى بوسط القاهرة لا يختلف كثيرا عن أثرها على أذن مستمع جلس في كافيه فاخر بشارع الشانزيليزيه بباريس ، الجميع اتفقوا على أم كلثوم التي غنت للحب وعن الحب .
ولو اكتفى عبد الحليم حافظ بالغناء الوطني "الموجه" بالمناسبة ، لما بنى أسطورته الخالدة التي صنعتها الأغنية الرومانسية والفيلم إلى جانب كونة صوت الثورة ، حتى الأستاذ عبد الوهاب "موسيقار الأجيال" لم يكن مشروعًا موسيقيًا ملكًا لأحد أو معبرًا عن شيء آخر غير أفكار ورؤى عبد الوهاب ، المشروع الفني هو مشروع ذاتي بالأساس معبر عن صاحبه، الوقت والزمن فقط هما المعيار الحقيقي لقيمته وأهميته وأعتقد أن الزمن أنصف عمرو دياب .