حين نشاهد صورة لهشام عباس وإيهاب توفيق ومصطفى قمر، وغيرهم ممن اكتشفهم وساهم في صعودهم المطرب والملحن والموزع حميد الشاعري، فبكل بساطة نشعر أننا أمام جدارية زمنية، تتجلى عليها ذكريات جيل الثمانينيات والتسعينيات، بكل ما مر بها من أحداث ومواقف مهما نسيناها، ستظل ساكنة في أغانيهم، ليستدعيها العقل والوجدان والقلب فور سماعها، ويستعرضها شريط الذاكرة بحلوها ومرها، لتصاحبها الابتسامات، أو تنهيدات الشجن.
لذا لا يرتبط الحديث عن حميد أو "الكابو"، بسيرة شخص مبدع فحسب، بقدر ما يرتبط بجيل غنائي من المطربين، وأجيال من المستمعين، تربوا على ملامح تلك الثورة الغنائية، التي غيرت شكل الغناء في مصر والوطن العربي، ووصفها الكاتب والشاعر هاني درويش بالنقلة الثالثة في تاريخ الموسيقى المصرية.
هذا الجيل الذي كان وليدًا في وقتها، لاقى في عصره نفس ما يتعرض له كل جيل وليد من هجوم واتهامات بتشويه الفن، وكسر قواعده المتعارف عليها، وإفساد الذوق العام، رغم أنه وإن شئنا الإنصاف، كان بمثابة قبلة الحياة التي أعادت للغناء ما كان يحتاجه من حيوية وتجدد وتغيير يناسب روح العصر، في وقت كانت خريطة الغناء في مصر تعاني من التشتت والحيرة بعد رحيل العندليب وأم كلثوم، اللذين لم يستطع أحد أن يملأ الفراغ الذي تركاه خلفهما، حتى بوجود محمد عبدالوهاب وشادية، ووردة، وفايزة أحمد، ونجاة، مع كامل الاحترام لتاريخهم ومنجزهم الفني، في وقت كانت الساحة تمر فيه بمرحلة انتقالية، ليس على المستوى الغنائي فحسب، ولكن أيضًا على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، مما جعل الجماهير لاسيما الشباب منها، في حاجة لفكر وشكل جديد يواكب هذا الانتقال والتغيير في نمط الحياة بكل أشكالها ومجالاتها.
حتى مع وجود جيل سابق لجيل أبناء الشاعري، مثل مدحت صالح وعلي الحجار ومحمد الحلو وعمرو دياب ومنير وعمر فتحي، كانت الجماهير في حاجة للمزيد من الوجوه والأصوات، لاسيما أن جيل دياب ومنير ومدحت والحلو والحجار، لم يكن قد أرسى قواعده بعد، ولم تكن بصماتهم الفنية قد تركت أثارها بالشكل الكافي، بخلاف تعرضهم أيضًا لنفس موجات الهجوم الشرس من المطربين الكبار والنقاد.
حاول البعض استغلال ذلك العطش الفني والجماهيري، بتأسيس فرق غنائية كان لها رونقها وطابعها المميز مثل الأصدقاء (عمار الشريعي ومنى عبدالغني وعلاء عبدالخالق وحنان) والمصريين (هاني شنودة ومنى عزيز وإيمان يونس وتحسين يلمظ وممدوح قاسم)، لكنها بكل أسف لم تستمر طويلًا، وانفرط عقدها، بخلاف استحواذ أحمد عدوية على ذوق شريحة كبيرة من الجمهور مع عصر الانفتاح في عهد السادات، الذي فتح أبواب مصر على البحري بشكل غير محسوب، قضى على الهوية المصرية بسرعة الصاروخ.
في ذلك التوقيت، نجح الشاعري -رغم أي نقد وهجوم- أن يفرض بصمته الفنية، ويقود ثورة غنائية في الشكل والمضمون، ليخرج الأغاني من قالبها الكلاسيكي، إلى القالب العصري سريع الإيقاع، حتى أصبح كلمة السر في تدشين جيل غنائي كامل، وصانع كبير ومهم لأهم النجوم الذين ظهروا على يديه، لاسيما مع ظهور الفيديو كليب الذي أظهر خفة ظل الكابو وأبنائه، وأضاف لأغنياتهم ملمحًا جديدًا في عصر الصورة.
عندك مثلا منى عبد الغني التي كسرت الدنيا بأغنية (يالّا يا أصحاب) بنجاح فاق كل نجاحاتها مع فرقة الأصدقاء، وسيمون التي شاركها حميد الغناء بأغنية (بتكلم جد) حتى أصبحت أيقونة غنائية يتغناها الجميع في كل مكان، وحنان التي تعاونت مع حميد وحققت معه نجاحًا هائلًا في ألبومات (البسمة) و(رايقة) و(تستاهل) و(بحبك)، التي قام الشاعري بالتوزيع الموسيقي الكامل لها، ولحن الكثير من أغانيها، بخلاف غنائه معها في (مسيرنا نعود)، وهشام عباس الذي كان لقائه بالكابو، أهم خطوة في بداية مشواره الفني، بعد أن اتفقا على التعاون ليقدما سوية مجموعة من أجمل الأغاني التي ساعدت في معرفة الناس بهشام عباس واشتهاره، سواء ظهوره في كليب (جلجلي)، أو مشاركته بالغناء في (حلال عليك)، و(عيني)، وغيرها من التعاونات الموسيقية في الغناء والتلحين والتوزيع، بشكل صنع اسم هشام عباس.
وكذلك مصطفى قمر الذي كان يغنى خارج المدرجات في كلية التجارة في جامعة الأسكندرية، وتعرف على حميد في حفل بالعجمي وسمعه فشجعه على الانتقال إلى القاهرة، وكانت بدايته مع أغنية (ولا يا أبو خد جميل) في ألبوم منوعات، وقبل هذه الأغنية عمل قمر البوم كامل مع فرقه يحيى خليل ولكن هذا الالبوم فشل، مما اضطر مصطفى إلى الرجوع للتعامل مع الشاعري ليقدما معا أعمالًا لاقت نجاحًا رائعًا مثل (مكاتيبي)، و(دباديبو) وغيرها من الأغنيات.
وإيهاب توفيق الذي حقق النجاح بعد انضمامه لفرقة حميد، وحظى بتوزيعاته المميزة منذ ألبومه الأول (إكمني)، وفارس الذي بدأ حياته الفنية بالغناء مع الكابو عام 1987، حينما أصدر ألبوم (هكتبلك) الذي احتوى على أغنية (يا جميل ياللي)، التي نالت انتشارًا كبيرًا وقتها، وعلاء عبدالخالق الذي كان تعاونه مع حميد، بمثابة علامة فارقة في مشواره الغنائي، بعد تفكك فرقة الأصدقاء الغنائية، حين التقى بحميد الذي ساعده في توزيع وإصدار أول البوم له باسم (مرسال) عام 1985، وشاركه حميد في أداء أغنية (بحبك كون) في نفس الألبوم، ثم حققا نجاحات رائعة جاءت تباعًا مثل أغنيتيّ (بس تعيشي) و(أجيلك من ورا الأحزان)، وعلي حميدة الذي حقق مع حميد نجاحًا فاق كل التوقعات في ألبوم (لولاكي) الذي حقق وقتها أرقام مبيعات تاريخية، وغيرها من التعاونات التي صنع بها حميد مسيرة جيل كامل، وكان وجود اسمه على ألبوم أي مطرب، صك ضمان لتحقيق النجاح، وبلوغ الشهرة والنجومية.
حتى حين تعاون حميد مع عمرو دياب الذي كان متحققًا وقتها بالفعل، استطاع أن يضيف لألبوماته وأغانيه مذاقًا مختلفًا عن كل النجاحات السابقة، فصنع معه نقلة مختلفة تمامًا في ألبومات (شوقنا) و(يلوموني) و(ما تخافيش) و(نور العين) و(قمرين).
ورغم سخرية نجوم التمثيل بالعديد من المسرحيات التي قُدمت بالثمانينيات والتسعينيات، من كلمات الأغانى والألحان التي قدمها أبناء حميد، بحجة أنها كانت بالنسبة لهم غريبة، و"تيك أواي"، وتحمل قدرًا من الإسفاف، إلا أن هذه الأغاني عاشت مع الزمن، فيما توارت تلك المسرحيات واختفت، وانتصر في النهاية ذوق الجمهور واقتناعه بالكابو وأبنائه الذين شكلوا ملامح حقبة زمنية فارقة في تاريخ الغناء.
فكل لحظة وأنت طيب يا حميد، مع أطيب التمنيات بدوام الصحة وطول العمر.
توقيع، واحد من جيل الثمانينيات، الذين تربوا على مجدك وتاريخك الباقي.