جرّب أن تتخيل شكل الحياة بدون فيروز، عمر خيرت، عبدالوهاب، بليغ حمدي، ياني، كيني جي، موتسارت، وبيتوهوفن.
أن تتصور هذا العالم بدون اختراع البيانو، الناي، الكمان، التشيللو، الساكس، الناي، والعود.. بدون مسرح، كاميرا، وألة عرض سينمائي..
احذف لوحات وإبداعات ليوناردو دافنشي من الكوكب هو ومايكل أنجلو وباقي فنانين ونحّاتين عصر النهضة، وانظر لشكل الكرة الأرضية، وتاريخ العالم بدون هؤلاء.
حتى أنبياء الله، كان منهم العازفين مثل داود النبي الذي كانت الطيور والخلائق تحتشد حوله وهو يعزف على قيثارته ومزاميره، وكان منهم من كان الإبداع ركنا أساسيا في مُلكه مثل نبي الله سليمان الذي سخّر الجن ليشيدوا له المباني والتماثيل.
والآن تعال معي لنعود إلى لحظة الخلق، حين صنع الله من الطين جسد آدم. كانت لحظة فنية في حد ذاتها، ويد الإله تنحت من الحمأ المسنون بشرًا، تجلت فيه عظمة وإبداع الفنان الأعظم في هذا الكون، ثم وصلت لحظة الفن والإبداع إلى ذروتها حين نفخ الرب في آدم من روحه الشريفة فأودع فيه أسراره، وأورثه صفاته، ليصبح الإنسان مبصرا من اسم الله البصير.. سامعا من اسم الله السميع.. حتى الخلق نفسه لم يحتكره الإله لذاته، ووصف نفسه في قرآنه بأنه {أحسن الخالقين}، ليجعل من خلقه صيغة تفضيل على باقي قدرات الخالقين من أبناء الإنس الذين ورثوا من اسمه الخالق القدرة على التخليق.
نعم شتان ما بين سمعنا وسمعه، وبصرنا وبصره، وخلقنا وخلقه، إذ أفاض علينا من صفاته التي منحها لنا على سبيل الإعارة، بينما هي في الحقيقة مِلكًا له على سبيل الأصالة.
وحين تفتحت عين آدم وأبصر الكون حوله، عرف أن خالقه مبدعا بحق.. لو لم يكن الإله قد وصف ذاته العَليَّة في آياته المباركة بأنه {بديع السماوات والأرض} لكُنّا قد وصفناه بذلك من تلقاء أنفسنا ونحن ننظر إلى هندسة الكون، ومعمار الأفلاك والنجوم والكواكب والمجرات، ونتأمل تناسق ألوان الطبيعة من جليد وجبال وأشجار وورود.. ونراقب حركة الشمس في السماء مع الشروق والغروب، وما يرتبط بها من لوحات جمالية حية في الشفق والغسق.
وكما يقول أستاذنا المفكر الراحل د. مصطفى محمود رحمة الله عليه: "بدأت الخلية الأولى في هذه الدنيا حياتها بنُشدان درجة معينة من الحرارة والجو والغذاء لانتعاشها وتكاثرها، لكنها كانت تُضمر في جوفها غايات أبعد استمدتها من الخالق البديع الفنان، وما أن استقرت وملكت ناصية حياتها في عقل الإنسان وتركيب باقي المخلوقات حتَّى أفصحت عن هذه الغايات البعيدة؛ فبدأت تنشد قيم الجمال والحق والخير والعدل والسلام..
فزهرة عباد الشمس تتطلع إلى الشمس، ونباتات الصبَّار تخرج تصانيف جميلة كأنها منحوتة بيد نحاتٍ فنانٍ عاكف على ابتكار أفانين الجمال، والنحلة تبني بيتها في معمارٍ هندسي بديع، والفراش يرسم زخارف بديعة على واجهة أجنحته.. حتَّى بلورات الحديد والنيكل والصخور إذا ما نظرت إليها تحت الميكروسكوب فستفغر فاهك من أشكالها الهندسية المختلفة، البديعة في تصميماتها".
ثم يأتي بعد ذلك من يختصر الإله في بطشه وانتقامه، ويُحرّم على البشر الفنون التي جعلها الله أية كاشفة عن وجوده، وغاية تستمر من أجلها الحياة.
الله بديع، مُصوّر، خلق الإنسان على صورته ليكون فنانًا؛ مبدعًا؛ رسامًا مثله.. ثم تدخَّل الشّيطان ورسم للإنسان هدفًا مُشوَّهًا أحمقًا؛ وهو أن يصير مثل الله خالدًا بالأكل من الشجرة، رغم أن الخلود لا يحتاج لمعصية الإله ومخالفة أمره، بقدر ما يحتاج لاكتشاف صفاته التي أورثنا إياها وغرسها فينا.
الخلود يأتي بالإبداع دون الحاجة للأكل من شجرة المعرفة أو شجرة الخُلد.
فكانت بضاعة الشّيطان هي المعرفة، والثمن الذي دفعه الإنسان هو الفضول.
وبعد أن نجح الشيطان في خدعته، وأخرج آدم من الجنة باسم الخلود، ها هو يواصل الخديعة لإخراجه من جنة النفس وجنة الأرض، بأن صوّر للمتشددين أن الفن مجرد درجة ثانية، وأن الإبداع ما هو إلا مظهر من مظاهر الترفيه؛ حتى يُبعد أبناء آدم عن الخيط الوحيد الذي يربطهم بالخلود الحقيقي، ويُخرجهم من جنة أنفسهم مثلما أخرجهم من جنة عدن، فانساق البعض منا خلفه، ونسوا أن جميعنا أظرف قد وضع فيها الله رسائل لهذا العالم، وكان طبيعيًّا على من اعتبر أن الفن مجرد نشاطٍ ترفيهي ألا يسعى لتسبيح الله بالبحث عن رسالته داخلنا حتَّى يعيد اكتشاف كل شيء، بعد أن سمحوا للشيطان الأحمق الذي يفتقر للإبداع، والذي استقى حيله ووسائله من التجربة لقلة خياله، أن يتحكم فينا ونحن من أودع الله الإبداع فيهم.
اهتممنا بعرق الوجه الذي يجلب الخبز رغم أنه عقاب؛ حتى شغلنا عن التسبيح بالألسن، والأوتار، والرسم، كآخر مرادفات متبقيةٍ من مملكة الجنّة التي غادرناها..
ومن لا يتذوق الإبداع، ولا تتجلى له عظمة الله في الفن، هو شخص إيمانه منقوص، وفاته الكثير من إدراك صفات الخالق وجماله.