كان يحيي غنام يستعد لبدء عزف أغنية جديدة قبل دقائق من نهاية الحفل ، ولكنه توقف فجأة ونظر للجمهور قائلا إنه اكتشف شيئا خطيرا ويود إخبارهم به في الحال.
"أنا عندي شيزوفرينيا .. شئ أكتشفه في نفسي لأول مرة. كيف أستطيع تلحين هذه النوعيات الغريبة والمختلفة من الأغاني" ، قالها بابتسامة كبيرة ردت إليه ضحكات عالية سواء من العشرات الذين امتلأ بهم المسرح المكشوف في دار الأوبرا المصرية مساء السبت ، أو من أفراد فرقته الصغيرة التي يقوم كل عضو فيها بأكثر من دور.
حال انفصام الشخصية "الموسيقي" التي كان مفاجأة لغنام ، لم تكن كذلك لجمهوره بل ربما كان دافعهم الأول لحضور حفل له والتسليم بفرحة لموسيقاه الرافضة للقوالب التقليدية.
فحفل غنام الذي استمر ما يقرب من ساعتين بلا توقف كان بمثابة رحلة بدأت بموسيقى الجاز قبل أن تغوص في الفولكلور الشعبي مع "تراحيل"، ترتد إلى شارع محمد علي لتلامس أجواء"الأنس والفرفشة" في "طيب"، تعبر الحدود لتقدم طبقا لاتينيا شهيا في "يا ليل" ثم تمزج الجميع في واحد لا تدري كنهه.
كان التباين أمرا محيرا في وقت تعد فيه الأغاني كالوجبات سابقة التجهيز ، وهو ما ظهر واضحا على مجموعة من الشباب افترشت الأرض وظلت تستمع بشغف. فتاة في أوائل العشرينات تتساءل "كيف يمكننا تصنيف تلك الموسيقى؟" ، يرد صديق بأنه لا يدري ولكن المهم "إنها متجانسة".
ويبدو أن الامتزاج والتجانس كانا سمتا العناصر البشرية للحفل وليس موسيقاه فقط.
غنام يعزف على الجيتار - أو معه - كأنه يراقص حبيبته ، طريقة أثارت إعجاب بعضهم وأطلقت تعليقات خفيفة الظل من البعض الآخر حول ما إذا كان يعزف فعلا أم يستخدمه "للمنظرة" ، يغني ويتمايل مع الموسيقى ، يوجه فريقه ، يحتد عليهم ، ثم يضحك في وجوههم.
سارة تغني مع المجموعة وبشكل منفرد ، تلعب على آلة إيقاعية ، تقلد صوت "الأراجوز" في أوبريت الليلة الكبيرة ببراعة مذهلة استحقت عليها تصفيق حار من الجماهير ، قبل كل ذلك تعمل مديرة للفرقة.
سالمة تغني أيضا مع استخدام آلة إيقاعية ثانية بحس عال ، أما خارج عالم غنام فهي تعمل مذيعة في فضائية خاصة.
إسلام فاروق ، مظهره مميز برأسه الحليق ومنظاره الطبي ، يعزف العود بمهارة فائقة ، يشترك مع الكورال في بعض المقاطع ويغني منفردا بصوت عذب في مقاطع أخرى.
ويقول فاروق إن الحفاظ على تلك الدرجة من التجانس في ظل اضطلاع كل شخص بأكثر من دور لا يأتي صدفة.
ويضيف لـfilbalad.com : "تلك النتيجة النهائية هي ثمرة الكثير من العمل والبروفات ، وأيضا بسبب ارتباطنا بشكل شخصي كأصدقاء".
ولم يكن الوضع مختلفا كثيرا في صفوف المستمعين.
نظرة للجمهور تجد بين أفراده جدين في العقد الثامن من العمر فضلا الجلوس في الصف الأول طلبا لصوت وصورة أكثر وضوحا ، شباب يستمع و"يدندن" مع الموسيقى ، مراهقون يتراصون على جانبي المسرح ويقوموا بالدور الأكبر في تحية فنانيهم بعد كل أغنية والمشاركة في اختيار "الحالة" المقبلة ، لوحة صاخبة بألوان لا تشعر فيها بتنافر.
النهاية جاءت متوقعة ، فالجمهور "العاقل" الذي حضر مفضلا الجلوس على الكراسي والتصفيق بوقار في بداية الحفل تدافع باتجاه جميع أعضاء الفريق الذين تداخلوا معهم بدورهم ، ماعدا غنام الذي اختفى من على المسرح بخفة بعد انتهاء الأغنية الأخيرة.
لا تستطيع تحديد المستمع من العازف فالكل يهنئ والكل يتلقى التهاني ولكن أبرز اللقطات كانت لسيدة عجوز تطلب بشكل أقرب للرجاء من عضو في الفرقة مقابلة غنام ، وتشجعه قائلة : "لا أريد أن التقط صورا معه ، أريد فقط أن أقول له شكرا على هذه الليلة".