أمل مجدي
أمل مجدي تاريخ النشر: السبت، 16 مارس، 2019 | آخر تحديث:
إدريسا أودراجو


"لا أعرف نفسي كمخرج إفريقي، أعتقد أن الأفلام يجب أن تمس الجميع". إدريسا ويدراجو، في حوار مع صحيفة الجارديان، عام 1991

يعد المخرج البوركيني إدريسا أودراجو، واحدا من السينمائيين الذين استطاعوا تحطيم كافة الحواجز التي تفصل بين البلدان، وتمكنوا من صناعة أفلام تروي قصصا شديدة الخصوصية لكنها قادرة على النفاذ إلى قلوب وعقول من يشاهدونها في المهرجانات الدولية المختلفة. من كان إلى فينيسيا مرورا ببرلين، ساهم ويدراجو في معرفة العالم بالسينما البوركينية، وتوسيع نطاق قاعدتها الجماهيرية. لذلك يخصص مهرجان الأقصر للسينما الإفريقية في دورته الثامنة، عددا تذكاريا لأحد أهم مبدعي السينما العالمية بعد رحيله عن عالمنا في 18 فبراير 2018.

في مدينة بانفورا ذات الطبيعة الخلابة، ولد أودراجو عام 1954، لأبوين مزارعين لاحظا مدى نباهة طفلهما في سنوات عمره الأولى، فقررا إرساله إلى العاصمة لمواصلة دراسته. هناك، انصب اهتمامه على الفعاليات الثقافية، وأصبح من الطلاب الناشطين الذين يحاولون رفع وعي المجتمع بالأمراض الصحية الخطيرة. كانت الأفلام المحلية آنذاك ذات طابع اجتماعي تعليمي تركز على طرق مكافحة الأمراض الخطيرة وإتباع أساليب الوقاية الحديثة. تعلق أودراجو بهذا النوع من السينما، وافتتن به، وبدأ يشترك في الأنشطة الفنية المتاحة. بالصدفة فتح المعهد الإفريقي للدراسات السينمائية أبوابه أمام محبي الفن السابع، فقرر الشاب الأسمر أن يترك دراسة اللغة الإنجليزية، ويتبع حلمه. لكن جذبه العمل السياسي، وانضم لحركة احتجاجية حتى أصبح من بين الطلاب المفصولين في عامه الدراسي الثالث.

الفصل التعسفي الذي أنهى دراسته مؤقتا، كان السبب وراء صناعة فيلمه القصير "بوكو" عام 1981. ففي هذا الفيلم، تعلم ويدراجو بنفسه قواعد التصوير والإخراج، وبدأت ملامح مشروعه السينمائي في الظهور. حيث مزج بين الشاعرية التي ستصبح فيما بعد واحدة من السمات الرئيسية في أفلامه، والنقد الاجتماعي للظروف الصعبة التي يعيشها الريفيون، من خلال التركيز على حكاية امرأة حامل تموت قبل وصولها إلى المستشفى التي تبعد كثير ا عن قريتها. حصد الفيلم جائزة من مهرجان فيسباكو السينمائي، ومنح لمخرجه الشاب فرصة الدراسة في الخارج.

تغيرت نظرة أودراجو للسينما وماهيتها عندما التحق بالمعهد العالي للدراسات السينمائية في باريس. تحولت من الطابع الاجتماعي التربوي إلى قضايا وأفكار أكثر عمقا ونضجا. اختار أودراجو أن يبتعد عن كليشيهات الفقر والجوع والمرض، ويخلق عالما سينمائيا يخاطب المشاعر الإنسانية ويصل إلى الآخر المختلف عنه. وجاء عام 1986، الذي تمكن خلاله من صناعة أول أفلامه الروائية الطويلة "الاختيار" مستعينا بممثلين غير محترفين. في هذا الفيلم، لم يكتف بعرض مشكلة اجتماعية فقط وإنما منحها أبعادا فلسفية ورمزية. تدور الأحداث حول فلاح وعائلته يقررون الخروج للبحث عن أراضي أكثر خصوبة بدلا من الانتظار حتى تأتي المساعدات الأجنبية. يأخذهم الطريق إلى مدينة مزدحمة، حيث يواجهون عالما غير مألوف بالنسبة لهم. ركز ويدراجو على الحداثة في مواجهة التقليدية، والاختلافات بين الريف والمدن، ربما لأن هذه هي الأفكار المسيطرة على تفكيره منذ انتقاله إلى العاصمة، أو من بوركينا فاسو إلى فرنسا.

الخطوة التالية، قربته أكثر من هدف التواصل مع الآخر، وأتت ثمارها كما تمنى. اختار أودراجو أن يكون موضوع فيلمه عن الجدة، فهي شخصية محورية في حياة الأطفال، ولها ذكريات مع الجميع في مختلف أنحاء العالم. وبالتالي، فإن حكايتها قادرة على التأثير في النفوس بالرغم من اختلاف الثقافات.

خرج فيلم "الجدة" للنور عام 1989، وقد شارك في مهرجان كان السينمائي ليحصد جائزة لجنة تحكيم النقاد الدولية (فيبرسى). لكن الأمر لم يقف عند هذا الحد، فقد نال الفيلم إعجاب دانيال تالبوت، رئيس شركة نيويوركر فيلمز، وقرر توزيعه حصريا داخل الولايات المتحدة الأمريكية. ليصبح أول فيلم أفريقي يطرح في دور السينما على أساس تنافسي مماثل للأفلام الأمريكية.

مع مطلع تسعينيات القرن الماضي، انتهت المرحلة الأولى من أفلام أودراجو التي تقوم على الصمت والتأمل وإيقاظ المشاعر المختلفة، وتتميز باللقطات الواسعة الطويلة للمناظر الطبيعية، وعمق التكوين، إلى جانب الممثلين الهواة. وانتقل المخرج البوركيني إلى الاعتماد على أساليب أكثر تقليدية في صناعة الأفلام، مثل الإيقاع السريع، والأحجام الضيقة، والممثلين المحترفين. تبدأ هذه المرحلة مع فيلم "القانون" عام 1990، الفائز بجائزة لجنة التحكيم الكبرى من مهرجان كان السينمائي. حيث يُفتتح الفيلم بمشهد أقرب في تصويره إلى نوع الويسترن الأمريكي. ويقدم قصة مستوحاة من المأساة اليونانية، تتناول عائلة تتمزق بعدما ينتهك أفرادها قوانين المجتمع وأعرافه، ويقطعون الروابط المقدسة التي تجمعهم.
استمر الأمر مع الفيلم اللاحق " سامبا تراوري"، الحائز على جائزة الدب الفضي من مهرجان برلين عام 1993. لكن عاد أودراجو مرة ثانية لبعض سمات أفلامه الاولى مثل الاستعانة بممثلين غير محترفين ، ليقدم قصة "سامبا" الذي اقترف جريمة في المدينة، ثم رجع إلى قريته الصغيرة محاولا تحقيق أحلامه، فيصبح في مواجهة بين تطلعاته الفردية وقيم المجتمع المحيط.

بعد ذلك، قرر المخرج البوركيني أن يبتعد قليلا عن صراعات المدن والقري، والفرد والمجتمع، ويغير من لغة أفلامه ومكان تصويرها. فذهب إلى فرنسا ليصنع "صرخة القلب" عام 1994 وفاز عنه بجائزة من مهرجان فينيسيا السينمائي، ثم اتجه إلى زمبابوي مع فيلم "كيني وآدمز" الناطق بالإنجليزية. ومع نهاية التسعينيات، تنوعت أعماله بين أفلام قصيرة وأخرى تليفزيونية، وقلة أعماله الروائية الطويلة. ولم تشهد السنوات التالية، عملا سينمائيا مهما له سوى المقطع الذي شارك به في فيلم "11 سبتمبر" إنتاج عام 2002، حيث ابتعد خلاله عن الصورة النمطية المتوهمة أن أسامة بن لادن يعيش متخفيا في كهوف أفغانستان، واختار أن يجعله متواجدا بين الناس في سياق يميل إلى الكوميديا.

بالرغم من تنوع أفلامه وتباين تجاربه السينمائية على مدار السنوات، ظل الفلاحون يمثلون جزءا كبيرا من حكاياته. فقد انحاز لهم سياسيا وفنيا، وأضفى على حياتهم لمسة شاعرية ساحرة، واحتفى بالطرق المختلفة التي يسلكونها لجعل هذه الأرض محتملة، حتى في أحلك الظروف. لم يحصر إمكاناتهم أبدا في ظروف اجتماعية واقتصادية محددة، بل حاول أن يجعلهم متحكمين في مصائرهم، ويبتكرون سبل لعيش الحياة بمفردهم أو مع الآخرين. ولآجل تأطير خبراتهم الحياتية، كان يهتم أن ترصد الكاميرا ابتساماتهم، وتعبيرات وجوههم مستخدما لقطات متوسطة وضيقة لا تنسى، ويختار تكوينات تتبع حركات أجسادهم الراقصة مستعينا بلقطات طويلة وعميقة الأبعاد.

السياسة أيضًا حاضرة بقوة في أفلامه، لكن دون جمل وخطب ثورية، وإنما بنعومة وحميمية شديدة. فقد لجأ إلى التركيز على شخصيات مهمشة بسبب عدم امتثالها للقواعد، مثل الأطفال، والنساء، والأبناء غير الشرعيين، واللصوص، والمهاجرين، ليؤكد على مدى هشاشة المعايير الأخلاقية التي يقوم عليها المجتمع. وعّبر من خلال حكاياتهم الحافلة بمشاعر الحب والكراهية والغضب والندم، عن زيف استقرار النظام، وقابلية تغيير هذه الأوضاع المهينة في أي وقت.

كانت أفلام إدريسا أودراجو بمثابة قصائد حب من بوركينا فاسو إلى العالم. وستظل بالنسبة للكثير من محبي السينما، بوابة لدخول مجتمعات لم يألفوها من قبل، تبدو غريبة من الخارج، لكن عند إمعان النظر يتبين أن المشاعر واحدة في كل مكان.

اقرأ أيضا
درة بوشوشة عن تكريمها بالأقصر للسينما الإفريقية: فخورة بالتكريم في بلد السينما

الأجندة - فعاليات اليوم الأول لمهرجان الأقصر للسينما الإفريقية