لا أمر يشغل صناعة السينما عالميًا الآن قدر قضية المساواة بين الجنسين، من قضايا التحرش والاستغلال الجنسي مقابل العمل إلى ضرورة التساوي في الفرص وسياسية الـ50/50 التي جعلت مهرجان برلين السينمائي يختار سبعة أفلام لمخرجات ضمن مسابقته الدولية التي تضم 17 فيلمًا، أصبحت 16 خلال أيام المهرجان بعد الإعلان عن إلغاء عرض "ثانية واحدة" فيلم المخرج الصيني زانج ييمو الجديد بسبب مشكلة تقنية، ليصير نصف المسابقة تقريبًا للنساء في أمر يحدث للمرة الأولى في تاريخ أي من مهرجانات العالم الكبرى.
الأنظار اتجهت صوب أفلام المخرجات السبع، لا سيما بعدما جاء اختيار أحدهم لافتتاح المهرجان وهو "طيبة الغرباء" للدنماركية لون شيرفج أقل بكثير من المتوقع من فيلم ينال هذا العرض المتميز، وبعد آراء متضاربة حول الأفلام، ظهر فيلم "الرب موجود.. واسمها بترونيا God Exists, Her Name is Petrunya" للمخرجة المقدونية تيونا ستروجر ميتيفسكا ليلفت الأنظار ويعيد توقعات ذهاب الدب الذهبي لإحدى المخرجات.
امرأة محبطة وصليب خشبي
الفيلم يجمع بين الموضوع الملائم للحظة، والمرتبط بوضع المرأة في المجتمع، وبين طرافة الفكرة المأخوذة عن حادثة حقيقية وقعت في مقدونيا عام 2014، خلال تقليد سنوي يقوم فيه راهب أرثوذوكسي بإلقاء صليب خشبي في النهر ليتسابق الشباب على العثور عليه، حين قامت فتاة لأول مرة بالمشاركة والحصول على الصليب مما أثار جدلًا كبيرًا حول الواقعة.
ميتيفسكا تعيد خلق الحكاية دراميًا عبر تأسيس شخصية بطلتها بترونيا، امرأة عمرها 32 عامًا، تعاني من زيادة في الوزن ومن بطالة تعاني منها منذ تخرجها فلم تمتلك خبرة مهنية سوى العمل بعض الوقت كنادلة، غير متزوجة ويبدو الارتباط بالنسبة لها حلمًا بعيد المنال، وتعيش تحت سطوة أم مهووسة لا يفوق تدخلها في حياة ابنتها سوى ما تبثه فيها من شعور بالنقص واستحالة التحقق والإنجاز.
الأم تدفع بترونيا دفعًا للذهاب إلى مقابلة عمل في مصنع للنسيج تتحول كارثة عندما يتحرش بها المدير ويسيء إليها لتخرج محبطة، وفي طريق عودتها تقابل موكب الاحتفال الديني بالصدفة فتجد نفسها تقفز دون تفكير وتنتزع الصليب، دون أن تدرك أنها ستفتح بذلك باب جحيم اندلع في وجهها داخل مجتمع لا يفهم كيف يمكن لامرأة أن تدخل مسابقة ظلت طوال التاريخ مقتصرة على الرجال، بل وتفوز عليهم وتنال الصليب.
تستدعي الشرطة بترونيا للتحقيق معها بناءً على رغبة الراهب الذي انتصر لها لحظة إلقاء الصليب، ثم عاد ليستجيب لضغوط العامة ويحاول أن ينهي الأمر عُرفيًا ـ كالعادة ـ لأن الفتاة لم ترتكب أي جريمة أو تنتهك أي قانون. بترونيا التي عاشت حياتها تتعلم كل يوم إنها غير قادرة على مواجهة حياتها البسيطة، تجد نفسها في مواجهة الجميع: سلطة دينية وشرطة متواطئة، رعاع مشاغبون يريد الجميع إرضائهم، أسرة غير مساندة، وإعلام يهتم بالقضية لحظات ثم ينصرف عنها لولا اهتمام مراسلة صحفية بمتابعة التطورات على مسؤوليتها الشخصية.
آثار الموجة الرومانية وعيوب التبسيط
يمكن ربط الفيلم بسهولة، سواء بسبب موضوعه أو طريقة تصويره المعتمدة على واقعية خشنة وكاميرات محمولة في كثير من الأوقات، بأفلام الموجة الرومانية الجديدة التي كان انطلاقها مطلع القرن الحالي على أيدي مخرجين مثل كريستيان مونجيو وكورنيليو بورمبويو، لتتوسع في منطقة البلقان وشرق أوروبا، وتفرز تيارًا سينمائيًا مؤثرًا يقوم جوهره على توظيف الجماليات المقتصدة في سرد حكايات يومية بسيطة وأصيلة تحمل داخلها موقفًا سياسيًا واجتماعيًا، تمامًا مثل "الرب موجود.. واسمها بترونيا" الذي يقدم في يوم وليلة رؤية عن وضع المرأة في عالم يفرض عليها تمييزًا غير قانوني أو منطقي، ويعاملها كمذنبة عندما تتمرد ـ ولو دون وعي ـ على هذا التمييز.
نصف قوة الفيلم تكمن في القصة والنصف الثاني في أداء زوريكا نوشيفا، التي يكاد يكون دور بترونيا كُتب من أجلها، السأم وانعدام الرغبة في المحاولة الذي يسيطر عليها في الجزء الأول من الفيلم، وتوترها خلال مقابلة العمل التي تعرضت فيها للإهانة، هي نتاج لطبقات تراكمت عليها بمرور الأعوام حتى استسلمت لواقعها التعيس، لكن وبمجرد أن تحقق انتصارًا صغيرًا توضع بسببه على المحك، تستعيد نفسها وتُظهر قوتها الحقيقية، لتقف وحدها في مواجهة القوى الثلاث: السلطة والدين والشعبوية.
استعادة امرأة مقهورة لكرامتها حكاية ممتعة تستحق دائمًا أن تُروى، وردود بترونيا الذكية على الكاهن والضباط يمثل كل منها انتصارًا صغيرًا يستمتع به الجمهور، غير إنه يفقد بعض تأثيره بسبب الأطراف المواجهة للبطلة، والتي يكمن فيها المشكلة الأكبر في فيلم المخرجة تيونا ستروجر ميتيفسكا.
ميتيفسكا التي كتبت السيناريو برفقة إيلما تاتاراجيتش انشغلت كثيرًا بشخصية بترونيا وبنائها بشكل متماسك يعبر عما تحمله المرأة الشابة من تناقضات، لكن ذلك جاء على حساب باقي الشخصيات التي تم رسمها جميعًا بتبسيط مخل، يجعل كل منها نمطًا أو رمزًا لإحدى القوى التي تواجهها البطلة، دون منح خصوصية حقيقية للشخصيات، بما في ذلك الأم التي تحمل داخلها بذور شخصية درامية قوية لم يستغلها النص. صحيح أن بترونيا تواجه الجميع، لكن الدراما لا يفترض أن تتعامل مع شخصية باعتبارها ممثلة للجميع، بل ينبغي أن يكون لكل شخصية فرادتها، وهو ما لم يحدث للأسف سوى مع الشخصية الرئيسية.
الفيلم والقضية والإمتاع
إلا إنه ومع رصد العيب السابق يظل الفيلم واحدًا من أفضل أفلام برليناله 2019 وأمتعها. هو فيلم نسوى بحكم قصته وما يطرحه من أفكار، في زمن أصبحنا فيه نتحسس مسدساتنا عندما نشاهد فيلمًا نسويًا في ظل الترويج المبالغ فيه لأفلام متواضعة بسبب موضوعها وقضيتها. لكنها هنا نسوية من النوع المتميز فنيًا، الذي ينطلق من الدراما والحكي أولًا وينتقل منها لطرح الأفكار.
المخرجة اختارت أولوياتها جيدًا: على الفيلم أن يورط من يشاهده في حياة بترونيا والموقف الذي تتعرض له، عليه أن يجعلنا نؤمن بأن هذه الفتاة لو استسلمت لما يُملى عليها مرة أخرى وتخلت عن الصليب الذي فازت به سيكون هذا اختيارًا يساوي التعاسة والفشل الأبديين، لتبُث الدراما القيمة في هذه المنحوتة الخشبية الصغيرة، وتجعلها تساوي أكثر كثيرًا من قيمتها المادية والدينية.
"الرب موجود.. واسمها بترونيا" حكاية امرأة دفعتها الظروف لفعل غير محسوب، ليضعها هذا الفعل في طريق لا يمكن العودة منه، عليها أن تسير قدمًا وتختار، فتتحرر أو تنتحر. بترونيا تختار أن تقاتل من أجل حقها وحريتها للمرة الأولى، لتمنحنا فيلمًا سيكون له في الأغلب نصيبًا من جوائز دورة برلين التاسعة والستين.