رسالة روتردام 1- سباق النمر: فيلم رعب سويدي في صدارة النصف الأول من أصغر مسابقة كبرى في العالم

تاريخ النشر: الثلاثاء، 29 يناير، 2019 | آخر تحديث: الثلاثاء، 29 يناير، 2019
فيلم "حاضر مثالي"

يمتاز مهرجان روتردام السينمائي الدولي، التي تُقام دورته الثامنة والأربعين حاليًا في المدينة الهولندية بأصغر مسابقة لمهرجان كبير في العالم.

ثمانية أفلام فقط يحتفي بها المهرجان في مسابقة النمر، بحيث يُعرض كل فيلم في ليلة وينال الاحتفاء والاحتفال الملائمين. المسابقة متخصصة في أفلام العمل الأول والثاني والثالث لمخرجيها، ويركز فيها المهرجان على الأعمال التي تحاول الابتكار على مستوى الشكل والمضمون.

أربعة أفلام من الثمانية المتنافسين قمنا بمشهادتها، نلقي عليها الضوء والتحليل في تلك الرسالة، والتي يتصدر فيها فيلم رعب سويدي السباق، مع فيلم صيني مصنوع بالكامل من مواد بث مباشر عبر الإنترنت، وآخر دنماركي عن المهاجرين العرب، ورابع هولندي بوسني يرتبط جزئيًا بالهجرة هو الآخر. على أن نقوم باستكمال باقي أفلام المسابقة في رسالة تالية من روتردام.

حاضر. مثالي. Present. Perfect. (الصين)

تجربة مثيرة للتأمل تُقدم عليها المخرجة زو شينجزيه التي انطلقت من حقيقة انفجار الهوس بالبث المباشر عبر الأنترنت في الصين، والذي تحول مهنة لكثيرين بابتكار منصة صينية كلما زاد عدد المشاهدين فيها كلما حصل صاحبها على مبالغ مالية، ليصل عدد من قاموا ببث مباشر في الصين خلال عام 2017 إلى أكثر من 422 مليون شخص قرروا مشاركة بعض لحظات حياتهم مع الملايين من مستخدمي الأنترنت.

المخرجة استخدمت أكثر من 800 ساعة من البث المباشر لتصنع مزيجًا مدته ساعتين، عرضتهما بالأبيض والأسود متتبعة مجموعة متنوعة ممن صار البث المباشر جانبًا مهمًا من حياتهم، مع التركيز على الأشخاص البسطاء الآتين من المقاطعات الصينية، وليس نجوم الأنترنت ومشاهيره، منهم مثلًا امرأة شابة تعمل في مصنع للملابس في مهنة مملة تقتصر على حياكة نفس القطعة آلاف المرات يوميًا، لكنها تقوم باستخدام وقت عملها في بث مباشر تتحدث فيه عن حياتها، وتتلقى تعليقات وأحيانًا تحرشات المشاهدين.

تكمن قوة "حاضر. مثالي." في قدرته أن يُعبر دون أي كلمة تعليق أو توضيح، فقط بتوالي مقاطع الفيديو ومتابعة شخصياتها، يُعبر عن أفضل وأسوأ ما في شبكة الإنترنت، وتأثيرها النفسي والمجتمعي على مليارات من البشر الذين صارت الشبكة العنكبوتية جزءًا رئيسيًا من حاضرهم. فمن جهة منح الأنترنت صوتًا لمن لا صوت له، المهمشون والمشوهون صار بإمكانهم التفاعل مع العالم وامتلاك صداقات بل ومعجبين. رجل تعرض لحريق شوّه وجهه، وآخر ولد بعيب خلقي وضمور في كافة أطرافه، وثالث تجاوز الثلاثين ولا يزال يمتلك وجه وجسد وصوت طفل، جميعهم صاروا عبر الأنترنت أصحاب منصات لها متابعين بدلًا من قضاء حيواتهم على هامش العالم، يسارع الآخرون للنظر بعيدًا كلما وقعت أعينهم على أجسادهم المصابة.

إلا إنه على الجانب الآخر يمكن بسهولة أن نلاحظ التشوه الذي أحدثه الأنترنت نفسه عليهم، بعد أن صاروا هوسًا يسيطر على حياتهم، لا يستطيعون الخروج من حيزه في كل أفكارهم وأفعالهم ومشاعرهم، صار الواقع بالنسبة لهم هي تلك الكاميرا الصغيرة وأعداد وأسماء المتفاعلين مع البث وإن قاموا بإهانة صاحبه، أما الحياة خارجه فهي مجرد إطار للصورة لا أكثر.

يعيب الفيلم بعض الطول الزائد الذي كان من الممكن تكثيفه، لكنه في المقابل تطويل يرتبط بموضوع العمل، فمن قال أن البث الحيّ وساعات الثرثرة من قبل أشخاص عاديين من الأقاليم الصينية لا يحتوي على الكثير والكثير من التطويل الذي لا داعي له؟ لتبقى تجربة المخرجة زو شينجزيه مثالًا واضحًا لعلاقة الشكل بالمضمون، فهما هنا وجهان لعملة واحدة اسمها عصر ما بعد الحداثة بعيوبه قبل ميزاته.


خذني إلي مكان لطيف Take Me Somewhere Nice (هولندا – البوسنة والهرسك)

في فيلمها الطويل الأول تمزج المخرجة الهولندية ذات الأصول البوسنية إينا سيندياريفيتش بين أكثر من نوع سينمائي، أولها بوضوح السيرة الذاتية، فالفيلم يروي حكاية مراهقة ولدت وعاشت في هولندا تقرر أن تقطع رحلة إلى مسقط رأسها في البوسنة والهرسك لزيارة والدها المريض، بما يتقاطع بوضوح مع حياة المخرجة، على الأقل على صعيد النشأة وتعدد الثقافات والجذور.

أما النوعين الأبرز في الفيلم فهما فيلم الطريق Road Movie وفيلم النضج Coming of Age، فالبطلة ألما (ساره لونا زوريتش، الأداء النسائي الأبرز في المسابقة حتى الآن) لا تخوض فقط رحلة بحثًا عن الأب والجذور، وإنما تستكشف نفسها في مرحلة الانتقال من المراهقة إلى الأنوثة، فتجتمع بقريبها الشاب وصديقه ليقطعا معًا رحلة في الأراضي البوسنية، وفي نفوسهم قبل كل شيء، لاكتشاف الجنس والجسد والصداقة وعنف العالم المحيط.

الصورة هنا عنصر بالغ الأهمية في معادلة "خذني إلى مكان لطيف"، المخرجة اختارت التصوير بالنسب الأكاديمية 1.375 التي تعطي انطباعًا بحصار الشخصيات داخل اللحظة الحالية، لا خيارات تُذكر سوى خوض الموقف والتعايش معه. اعتمدت سيندياريفيتش مع مدير تصويرها إيمو فينهوف على تكوينات غرائبية، ترى الأشياء من منظور مخالف للسائد، ربما في مقاربة لفكرة نظرة المراهق للعالم.

لا يحمل الفيلم الكثير على صعيد الحبكة، الرحلة الخارجية لا تحتوي على مفاجآت بل وتخرج أحيانًا عن الجو العام للفيلم عندما يدخل في الأحداث فجأة حقيبة مخدرات توجد في سيارة الأبطال، لكن لحسن الحظ لا تتوقف المخرجة كثيرًا عند ذلك وتصب أغلب اهتمامها على نقطة قوة حكايتها: البناء النفسي للشخصيات، لا سيما البطلة التي يجتمع داخلها العديد من التناقضات، بدءًا من صعوبة تصنيفها كفتاة مراهقة أو امرأة مكتملة الأنوثة، مرورًا بعلاقتها بالشابين المصاحبين لها في الرحلة، وصولًا للقرارات التي تأخذها طوال مسار تلك الرحلة.

أبناء الدنمارك Sons of Denmark (الدنمارك)

يثير المخرج الدنماركي عراقي الأصل عُلى سليم قضية العنصرية والعنصرية المضادة في فيلم مثير للاهتمام، يبدأ بتفجير يوصف بأنه "الحادث الإرهابي الأكبر في تاريخ الدنمارك"، يستخدمه المخرج كبداية لصعود نجم حزب يميني متطرف يحمل اسم "أبناء الدنمارك"، تتصدر أجندة قائده السياسية خلال خوضه انتخابات رئاسة الوزراء رغبة الحزب في طرد جميع المهاجرين من البلاد، بما يُنتج في المقابل جماعة من المهاجرين، يعملون تحت الأرض لتنفيذ عمليات انتقامية.

النصف الأول للفيلم يروي حكاية انضمام شاب عربي لتلك الجماعة التي أوجدت له أخيرًا هدفًا كبيرًا لحياته، ليتم تجنيده لمهمة كبرى توكل إليه. حتى هذه النقطة يبدو "أبناء الدنمارك" فيلمًا اعتياديًا. صحيح إنه جيد التنفيذ يأخذنا إلى عالم المهاجرين العرب في أوروبا بصورة بعيدة عن السطحية والنمطية، لكنه في النهاية يدور في فلك المتوقع من فيلم يتناول هذا الموضوع. إلا أن الأمر يتغير باكتشاف وجود متسلل داخل جماعة المهاجرين هو شرطي دنماركي من أصل مصري، يُخلص للقانون ويمارس مهام عمله حتى ولو على حساب من تجمعه بهم الجذور واللغة والدين. ليخرج الفيلم هنا عن مسار التوقعات، ويتحول من فيلم تشويقي ذي موضوع جاد، إلى فيلم دراما نفسية بامتياز، مع انقلاب ذكي بتحول دفة الحكاية ليكون بطلها هذا الشرطي الذي كان في النصف الأول مجرد دور داعم.

يبدأ "أبناء الدنمارك" من هذه النقطة طرح أسئلة أكثر عمقًا تتعلق بهوية المهاجرين القدامى، أبناء الجيل الثاني، الذين ولدوا وعاشوا في الغرب فانتموا إلى مجتمعه وصعدوا داخله، بينما ظلوا حبيسي جذورهم مهما بدا عليهم الانصهار. داخليًا، لا يمكنهم التخلص من جيناتهم ولا من الإرث الثقافي للعائلة، وخارجيًا، سيظل السكان الأصليين للبلد يتعاملون معهم باعتبارهم وافدين، ضيوف يزداد وجودهم ثقلًا مع توافد اللاجئين الجدد؛ ليُفضي ذلك إلى وضع مهين مفاده أنك لن تكون أبدًا من "أبناء الدنمارك" ولو كنت قد ولدت ونشأت بل وعملت في سلكها الحكومي بإخلاص.

القالب التشويقي وعالم الصراع الأيديولوجي الذي تدور فيه الأحداث عنصران منحا المخرج مساحة من المباشرة غير المزعجة، فوسط سياسيين ورجال شرطة وقادة جماعات سرية من المقبول منطقيًا ـ وحتى فنيًا ـ استخدام الأحاديث المباشرة حول أمور نظرية مجردة، لكن يبقى أن الحكاية نفسها ومأزق بطلها كان من الممكن أن تُعالج بقدر أقل من الحديث حول السياسة، لا سيما في المواجهات اللفظية بين الشرطي وقائد الحزب اليميني. لكنه يبقى فيلمًا مهمًا وشيقًا من المتوقع أن يلقى اهتمامًا من السينمائيين والمهرجانات العربية.

كوكو دي كوكو دا Koko-di Koko-da (السويد)

أفضل أفلام النصف الأول للمسابقة بدون منازع، رغم انتمائه لسينما النوع التي يعتبرها البعض أفلامًا من الدرجة الثانية. المخرج السويدي الموهوب يوهانس نيولم الذي لفت الأنظار بفيلمه الأول "العملاق" حين فاز بجائزة لجنة تحكيم مهرجان سان سباستيان عام 2016، يعود بعمل بالغ الأصالة اختاره مهرجاني روتردام وصندانس ليُقام عرضه العالمي الأول في مسابقتيهما بالتوازي.

حكاية رعب نفسي، تبدأ بتتابع بالغ الإيلام عن أجازة تتحول مأساة لدى أسرة مكونة من أب وأم وطفلتهما التي تحتفل بعيد ميلادها الثامن. غذاء احتفالي تصاب الأم فيه بحساسية بسبب وجبة اقتسمتها مع الابنة التي لم يظهر عليها أي آثار مثل أمها، لكن بعد ساعات وأثناء التحضير للاحتفال بعيد الميلاد يكتشف الوالدان أن صغيرتهما قد رحلت عن العالم. المخرج يبرع في تقديم فصل البداية الموغل في القسوة بثقل الكبار، ويفرض نذيرًا بالكارثة تكاد تراه يحلق فوق الأسرة دون أن تعرف لماذا تشعر بأن سعادتهم لن تستمر طويلًا.

بعد لوحة شعرية بخيال الظل تُلخص ما جرى بشكل أليجوري، يبدأ الجزء الرئيسي من الفيلم بعد ثلاث سنوات من الحادث، عندما يقرر الزوج والزوجة اللذين زرع رحيل الابنة بينهما كثير من الصمت والألم والذنب واللوم أن يقضيا ليلة مخيمين في الغابة، وهناك يتعرضان لهجوم من ثلاثة شخصيات تبدو آتية من عالم الأخوين جريم (بنسخته الكابوسية): رجلان وامرأة لا يوازي شكلهم الكارتوني سوى وحشيتهم غير المبررة.

سنة نسخ متتالية من هجمة الثلاثي الكابوسي على الزوجين، كل منها يسير في طريق وفقًا لتفاصيل صغيرة وخيارات يأخذها البطلان، لنُدرك تدريجيًا حقيقتين. الأولى أنه لا مفر، مهما اعتقد أحد الطرفين أن قرارًا ما قد يغير القدر، فالكارثة ستحدث لا محالة. أما الحقيقة الثانية فهي أن الرعب الجاري أمامنا هو أكبر من مجرد هجوم وحشي، بل هو تجسيد مادي للتشوه والمخاوف والآثار غير القابلة للتصحيح في نفوس أب وأم فقدا في لحظة أهم ما يربطهما ببعضهما وبالعالم.

"كوكو دي كوكو دا" عمل مدهش في شكله ومضمونه، في تمكن صانعه يوهانس نيولم من استخدام قالب فيلم الرعب وأدواته البصرية والسمعية في سرد مأساة نفسية وإنسانية، كلما ازددنا انخراطًا فيما يعيشه البطلان من رعب متزايد كلما لمسنا أكثر سر هذا الرعب الذي لا ينتهي.


اقرأ أيضا

فيلم Glass لا يتحطم أمام منافسة الأفلام الجديدة.. "أكومان" يتقدم هذا الأسبوع

القائمة الكاملة لجوائز SAG- فيلم Black Panther يفوز بالجائزة الكبرى.. إيميلي بلانت تتفوق على مرشحات الأوسكار!