يحاول بعض متلقي الفن اختزاله تحت لافتة "الفن رسالة"، هذه الرسالة عادة تكون أخلاقية أو قيمية بشكل ما، فالمطلوب أن يحمل الفيلم قيمة واضحة في نهايته تلخصه، كأن نقول: هذا الفيلم عن أهمية الوفاء، أو الرضا بالمقسوم، أو البر بالوالدين. في مقابل هذه الرسائل المرجوة يمكن أن يتغاضى المشاهد عن جودة المستوى الفني وبقية العناصر بوجه عام، مثلما يحدث عادة مع المسلسلات.
فيلم "الضيف" يعود بنا إلى فكرة أن الفيلم رسالة، لكن الرسالة التي حملها مختلفة، تحمل توقيع إبراهيم عيسى.
سيناريو وحوار إبراهيم عيسى
في تجربته الثانية في كتابة السيناريو لا يبتعد إبراهيم عيسى كثيرًا عن أجواء الحوارات الدينية الشائكة التي سبق وقدمها في فيلمه الأول ”مولانا“، وإن كان يأخذها هذه المرة إلى عمق أكبر، وتحتل مساحة أضخم من الفيلم.
تدور الأحداث في ليلة واحدة، يحل المهندس الشاب أسامة (أحمد مالك) ضيفًا، على بيت الدكتور يحيى التيجاني (خالد الصاوي)، ليتقدم لخطبة ابنته فريدة (جميلة عوض)، تتحول المقابلة سريعًا إلى ساحة نزال كلامية بسبب الخلاف الكبير في الآراء الدينية بين أسامة المتشدد دينيًا ويحيى المتحرر، وتحاول كلًا من الزوجة مارلين (شيرين رضا) والابنة فريدة تهدئة الأمور.
لا يحتوي الفليم على ما يزيد عن هذه الحوارات إلا قليلًا، فإذا بحثنا عن الدراما أو تصاعد الأحداث فلن نجد إلا تحولًا وحيدًا يقع قبل نصف ساعة من نهاية الفيلم، سنتعرض له لاحقًا.
يحول إبراهيم عيسى الفيلم إلى عدة فصول كل فصل يناقش خلاله إحدى القضايا الدينية، مثل الحجاب أو قبول المسيحيين، أو الخلاف حول علماء الإسلام، لا توجد مقدمات أو تمهيد من قلب الأحداث لأي من هذه الحوارات، فقط عبارات يشعر المشاهد بقوة أنها مصنوعة خصيصًا لإثارة هذا الحوار الآن، وليست تلقائية نابعة من تطور منطقي للأحداث.
يذهب أسامة ليغسل يديه بعد الأكل ويخبر فريدة: "اتخذنا هذا القرار معًا ولا يجب أن يتدخل أحد فيه"، في المشهد التالي تجلس فريدة على المائدة لتخبرهم بهذا القرار وهو أنها سترتدي الحجاب. لو كان هذا المشهد ظهر قبل دقائق أو بعد دقائق أخرى لم يكن ترتيب الأحداث سيختلف كثيرًا، إذ أن الدخول في قضية الحجاب لم يكن مُمهدًا له بشكل جيد منذ البداية، وبعد أن ينتهي الحوار حوله لا يتبقى له إلا أثر طفيف، وهو زيادة بسيطة للتوتر الموجود على استحياء.
تُناقش كل قضية من خلال حوار طويل بين يحيى وأسامة، ينتصر فيه الأول عادة ولا يُفسح السيناريو إلا القليل لظهور شخصيتي الأم والابنة، اللتان تُستخدمان عادة بمثابة الفاصل بين القضية و الأخرى، وهو الأمر الذي ينطبق على الظهور السريع لشخصية مثل هاني (ماجد الكدواني) شقيق مارلين الذي يأتي إلى البيت في مشهد استمر لدقائق قليلة ولم يُضف شيئًا للأحداث.
مع هذا النص الذي يعتمد على الحوار بشكل رئيسي، ولا يخرج من البيت تقريبًا، كانت مهمة المخرج صعبة لمحاولة كسر رتابة هذه الحوارات، فهل نجح هادي الباجوري في ذلك؟
إخراج هادي الباجوري
تستمر الأحداث داخل حدود بيت الدكتور يحيى، ولكننا ننتقل في كل مشهد إلى غرفة مختلفة أو إلى حديقة المنزل، لكن حتى هذه المحاولات لم تُنقذ الفيلم من الوقوع في حالة الرتابة.
اختار هادي الباجوري أماكن محددة مثل غرفة المكتب التي شهدت أكثر المشاهد، أو صالة البيت، فإن تقبلنا محدودية الأماكن نظرًا إلى طبيعة السيناريو، فبالتأكيد كان يمكن للمخرج إيجاد حلول أخرى لصناعة لأحادية المكان.
في أي مشهد كان التكوين يعتمد على جلوس الممثلين في وضع ثابت في أماكنهم ويبدأ الحوار، ويستمر حتى نهايته دون أن تتحرك أي شخصية من مكانها تقريبًا، فماذا عن الكاميرا؟
أغلب اللقطات متوسطة الحجم والكاميرا ثابتة، تركز عادة على الممثل الذي يتحدث دون رصد لردود الأفعال، مع الحوار المستمر سنشعر في لحظة ما أننا نشاهد إحدى حلقات التوك شو.
حتى في محاولات المخرج لصناعة لحظات توتر بصرية نجد أنها لحظات خادعة لا يبقى لها أثر في المشاهد التالية.
في الثلث الأخير من الفيلم يزور ضابط الأمن (محمد ممدوح) البيت بشكل مفاجئ ليطمئن على دكتور يحيى، يسبق هذا المشهد حالة التوتر الأبرز في الفيلم والتي سنتعرض لها لاحقًا، بعد أن يتبادل الحوار مع الدكتور يحيى على الباب، نشاهده في لقطة تالية من خلال النافذة وهو ينظر إلى البيت في شك، مما يوحي بأنه من الممكن أن يعود، لكن لا شيء يحدث على الإطلاق، هذه لقطة ليست موظفة لأي سبب واضح.
حتى اللقطات الفاصلة بين مشهد وآخر يكررها المخرج بحذافيرها، فنشاهد لقطة من زاوية علوية للطاولة والكراسي في الحديقة، وبعدها نفس اللقطة بالضبط مع هطول الأمطار، لا يوجد أي تغيير على المستوى البصري.
تتابعات النهاية
مدة الفيلم تزيد عن الساعة والنصف بقليل، لكن التوتر الحقيقي لا يأتي إلى في نصف الساعة الأخيرة، وفي الجزء التالي كشف لتفاصيل نهاية الفيلم.
يدخل أسامة إلى البيت بلوحة ضخمة لآية قرآنية يضعها يحيى في غرفة المكتب، وفي الثلث الأخير من الفيلم يتسلل أسامة إلى غرفة المكتب ويفتح ظهر اللوحة ويسحب منها مسدسًا مخبأ بعناية، يهدد به يحيى وأسرته. كل ما فات من الفيلم في كفة وهذا الجزء الأخير في كفة.
يتضح أن أسامة ينتمي إلى جماعة متطرفة ما وهو مكلف بقتل يحيى، وهو أمر منطقي ومقبول في إطار شخصية يحيى التي نتابعها والمحكوم عليها في قضية ازدراء أديان، لكن المؤلف مرة أخرى، وحتى في لحظات تهديد المتطرف للدكتور يحيى، يحول الموقف إلى حوار آخر طويل.
بداية علينا أن نتغاضى عن انتظار هذا المتطرف كل هذه المدة حتى يخرج سلاحه ويصوبه ليحيى، فمبراجعة الأحداث منذ بدايتها لن نجد مبررًا منطقيًا، وبالتأكيد لم تكن الحوارات السابقة محاولة لجعل يحيى يرجع عن ضلالاته، فمن المعروف في عمليات الاغتيال أنها تنفذ مباشرة لأن الحكم يكون صادرًا بالفعل، لكننا سنغفل هذه التفاصيل.
كما في أفلام الأكشن التي يقف زعيم العصابة ملوحًا بسلاحه أمام البطل الأعزل، وبدلًا من أن يقتله مباشرة يتلو عليه قصة حياته حتى يجد البطل منفذًا للهرب فجأة، هكذا حدث في ”الضيف“. أسامة المكلف بعملية قتل مؤمن بها، يقف مع الدكتور يتبادل حوار طويل حول أفكاره والأسباب التي سيقتله بسببها، وأنه بالتأكيد لم يتوقع أن يأتي إليه مهندس مرموق بل توقع أن تأتيه الضربة من شاب غير متعلم.
هذا الحوار موجه للمشاهد بشكل مباشر أكثر مما هو موجه من شخصية إلى أخرى داخل الفيلم، انتبه أيها المشاهد إلى أي مدى وصل الفكر المتطرف. يُجبر أسامة يحيى أن يروي تاريخه الخفي، إذ انضم إلى إحدى الجماعات المتطرفة سابقًا وأحرق أحد أندية الفيديو قبل أن يهرب منهم للأبد.
عندما نشاهد أسامة وهو يجبر الدكتور على رواية هذه القصة سنشعر أن الأخير قام بسلسلة مخيفة من الجرائم وأن ما سيرويه الآن سيغير من وجهة نظر أسرته عنه للأبد، لكن ما حكاه -الذي يُعد جريمة بالتأكيد- لا يمكن أن يقف أمام التاريخ القوي الذي نسمعه عنه في المقابل منذ بداية الفيلم، وبالتالي يشعر المشاهد أنه وُعد بأمر لم يتحقق.
لكن الكلام عن تتابعات النهاية لم ينتهِ، فمن ضمن المبالغات الموجودة لشخصية يحيى، نجده يستمر في السخرية التي يتبعها منذ بداية الفيلم حتى وهو مهدد مع أسرته بمسدس إلى رأسه، في أسلوب لا يقترب بأي شكل من الواقع أو المنطق.
بل إن يحيى يقول لزوجته بمجرد أن يجد المسدس مصوبًا إليه: ”اتفضلي الأخ طلع إرهابي“ هكذا ببساطة وكأنه اكتشف أن العريس المتقدم إلى ابنته متزوج بالفعل وليس على وشك أن يقتله. هذا الأسلوب الهادئ والساخر يستمر حتى النهاية في سلسلة كبيرة من الحوار الساخر الذي لا يمكن تقبله في إطار الموقف بالتأكيد.
رسالة الفيلم
بالمقاييس الفنية يمكن أن نذكر لهذا الفيلم أداء خالد الصاوي وتصوير مازن المتجول، لكن يمكن أن يجد بعض المشاهدين في الفيلم رسالة يحملها ممثلة في الأفكار التي ناقشها، وإن كانت هذه الطريقة الجافة والمباشرة في طرح الأفكار ليست الأسلوب الأفضل أو الذي يبقى في الذاكرة.
الأفلام التي تحتوي على محاكمات عادة تطرح أفكارها بشكل مباشر في أثناء المرافعة داخل قاعة المحكمة، ”ضد الحكومة“ لعاطف الطيب أو ”قضية رقم 23“ لزياد الدويري، كلاهما استخدما هذا الشكل، لكن كلا الفيلمين يحتوي على دراما حقيقية وتطور في الأحداث، حتى وإن انتهيا بأن يعرضا عدة أفكار بشكل واضح في نهاية الفيلم.
هذا ما لا نجده هنا، مع نزول تترات النهاية سنجد أن الفيلم على المستوى الدرامي لا يحمل تطورًا منطقيًا ومع تقييد السيناريو للمخرج في مكان واحد، وتقييد المخرج لكاميرته بلقطات ثابتة، لا يتبقى من الفيلم إلا الرسالة التي يوردها صناعه، محاولات مناقشة عدة قضايا ناقشها ويناقشها إبراهيم عيسى في برامجه ومقالاته وقرر نقلها لفيلم هذه المرة.
اقرأ أيضا
"الضيف"- عن اختيار الدكتور يحيى ومأزقه.. وفرصة ابراهيم عيسى المُهدرة