في آخر يوم قبل إعلان الفائزين في مهرجان برلين السينمائي يُعرض آخر أفلام المسابقة الرسمية، الفيلم الألماني In the Aisles للمخرج توماس ستوبر، الذي يدفع الصحفيين والنقاد لتعديل توقعاتهم للجوائز، فمع مستوى الفيلم المتميز في أغلب عناصره كان من المتوقع فوزه بسهولة بواحد من دببة المهرجان. لاحقًا أعلنت الجوائز ليخرج الفيلم بدون جوائز، لكن هذا لا يعيقه أن يحتل مكانة مهمة ضمن أفضل أفلام العام، وهكذا جاء الفيلم ليُعرض في بانوراما الفيلم الأوروبي 11.
للحب قصة أخرى
رغم قدم قصص الحب الرومانسية في السينما، لكنها ستبقى حاضرة طالما ظلت هناك طريقة جديدة للتناول، وأنماط مختلفة أو غير معتادة من الشخصيات تكون قطبي قصة الحب التي سنتابعها.
"كرستيان" فرانز روجوفسكي العامل الجديد في أحد المتاجر الضخمة، يبدأ خطواته الأولى ليتقن تفاصيل عمله، تحت إشراف رئيسه المخضرم "برونو" بيتر كورث، عمله يمكن تلخيصه في تحميل وترتيب البضائع على رفوف المتجر سواء يدويًا أو باستخدام الروافع. تدريجيًا يجد نفسه يقع في حب العاملة الأقدم منه "ماريون" ساندرا هولر، ولكن الأمور لا تسير بهذه السهولة.
يشارك توماس ستوبر في كتابة السيناريو أيضًا مع كليمنز مييَر، أمام المخرج هنا محورين رئيسيين عليه تقديمها معًا، دون أن يرتفع أحدهما على الآخر، الأول هو عالم هذه الشخصيات وطبيعة عملهم، والجوانب الخفية التي لا يشاهدها أي متسوق يذهب للمتجر ليشتري، والثاني هو علاقة الحب بين "كرستيان" و"ماريون"، وما يقدمه "برونو " من تأثير واضح على شخصية "كرستيان".
ينقسم الفيلم إلى 3 فصول ويُكتب هذا على الشاشة بوضوح، الأول يحمل اسم "كرستيان"، والثاني "ماريون" والأخير "برونو"، لكن هذا لا يعني أننا نتابع الأحداث من خلال كل شخصية منهم، بل إن المخرج يختار منذ البداية أن الأحداث ستظل من وجهة نظر "برونو"، فالكاميرا لا تفارقه إلا نادرًا، لكن الفصول تحمل أسماء الأشخاص الذين سنتعرف عليهم بشكل أكبر داخل هذا الفصل.
يختار السيناريو طريقة بسيطة لتقديم الشخصيات، إذ نتعرف على "كرستيان" تدريجيًا من خلال يومه في العمل، و"ماريون" من خلال علاقته بها، الشخصية الأكثر غموضًا هي "برونو"، شخص يبدو أنه يعرف الكثير عن الحياة لكنه مل كل شيء في النهاية، يستقبل "كرسيتان" بالصد لأنه لا يريد من يساعده لكنه سريعًا ما يعلمه كل شيء، ليس فقط في ما يخص تفاصيل العمل، لكنه أيضًا يكون له بمثابة المرشد في حياته.
كتابة شخصية "برونو" هي الأفضل، إذ لا نعرف عنها الكثير، لا نعرف سوى ما يجعل الشخصية تلفت نظرنا في البداية، ثم تدريجيًا يصبح هو الشخصية الأبرز في الثلث الأخير، وصاحب أحد أهم نقاط التحول في الفيلم، ويظهر دائمًا في التوقيت المناسب، وكأنه يعمل كحلقة وصل بين "كرستيان" و"ماريون"، وبين "كرستيان" ونفسه أيضًا.
الممثل بيتر كورث كان قد لعب الدور الرئيسي في فيلم توماس ستوبر السابق A Heavy مرة أخرى، فلم يكن السيناريو فقط هو ما قدم لنا هذه الشخصيات بل أيضًا لعب الممثلون Heart، الذي كان دورًا شديد الصعوبة لملاكم سابق مصاب بمرض خطير، وقد أداه ببراعة، يبدو "برونو " أكثر سهولة، على المستوى الحركي على الأقل، لكن كورث لا يتنازل عن تقديم أداء جيد ومُقنع أدوارهم بالشكل المطلوب، بيتر كورث على سبيل المثال رغم صغر مساحة دوره لكن أداؤه يساعد في توصيل الحالة النفسية لشخصية "برونو" ، هو يحافظ على تعبير وجه واحد في معظم مشاهده، كشخص لم يعد شيء يدهشه، ولا يهتم بشيء أيضًا، دائمًا وجهه ساخر ولا مبالي.
ولكن رغم قوة السيناريو بشكل عام، والتوظيف الجيد للممثلين، فقد كان هناك بعض البطء في الثلث في الثاني، خاصة في المشاهد التي يعود فيها كرستيان إلى أصدقائه القدامى ليحاول نسيان "ماريون"، وهذه الأخيرة أيضًا ظلت تحولاتها غامضة ومفاجئة أكثر من المنطقي.
على الرغم من بساطة القصة الرئيسية، فالسيناريو يكسر سقف التوقعات بالنسبة لحياة هؤلاء العمال في نهاية الأمر، فهو لا يقدم معاناة تقليدية للشخصيات من طبيعة العمل، بل على العكس يترك هذه التفاصيل الصعبة لحياة الشخصيات تحدث دائمًا خارج المتجر، وتلقي فقط بظلالها على الداخل، وهو ما يؤكده بصريًا أيضًا كما سنذكر لاحقًا.
في الممرات أفضل جدًا
المكان ليس هامشيًا هنا، بل هو أحد الأبطال، يظهر هذا بوضوح من عنوان الفيلم ”بين الممرات“، لكن المخرج يحافظ على هذا الخيار بصريًا طوال مدة العمل تقريبًا، بل إن ممرات المتجر هي التي تفتتح الفيلم في البداية، نشاهد لقطة خارجية للفجر أمام المتجر ثم لقطات متعددة لأقسام المتجر المختلفة ، والكثير من الممرات بالطبع، قبل أن تظهر الرافعة الكهربائية وتتحرك بعيدًا عن دائرة الضوء لتبدو وكأنها تتحرك وحدها دون قائد، المتجر يعرفنا بنفسه، هو البطل الرئيسي قبل بقية ظهور بقية الأبطال.
وعندما أراد تقديم الرافعة الكهربائية، قدمها أيضًا كبطل داخل الفيلم، من خلال 3 لقطات قريبة من زوايا مختلفة للرافعة قبل أن يكشفها كاملة ويتعرف عليها "كرستيان".
لكن كيف يوظف المخرج المكان داخل الأحداث؟ لا يكتفي بأن تدور معظم أحداث الفيلم داخل المتجر، لكنه يوظفه بصريًا بشكل جمالي ومتكرر، فأغلب اللقطات نجد فيها "كرستيان" يقف في منتصف الكادر بينما الممر الخالي يمتد خلفه والرفوف عن يمينه ويساره، ورغم تشابه شكل أغلب الرفوف، إلا أن المخرج كان لديه حلول جيدة حتى لا يكرر نفس الأماكن، فيستعين بثلاجة حفظ المجمدات مرة، وغرفة حفظ الكائنات البحرية مرة أخرى، بالإضافة لغرفة ثالثة مهمة.
الغرفة هي الاستراحة التي تحتوي على جهاز القهوة حيث تتبادل الشخصيات المختلفة حوارها في فترات الراحة. يمنح الديكور هذه الغرفة شكلًا مميزًا، إذ نجد الجدار الأكبر فيها مغطى بالكامل بورق حائط يحمل صور شاطئ به نخيل وسماء مشرقة، فيستخدم المخرج زاوية تصوير متوسطة في المشاهد التي تجمع بين "كرستيان" و"ماريون" ليجعل السماء والنخيل خلفهما، عندما نربط هذا مع صوت البحر الذي نستمع إليه في بعض اللقطات التي تجمع الشخصيتين معًا أثناء استخدام الرافعة، فإننا نشعر بأن وجودهما داخل هذه الغرفة ينقلهما إلى حالة أخرى رغم أنهما لم يفارقا المتجر.
ينقلنا هذا إلى الطريقة التي صور بها المخرج العالم خارج المتجر، إذ جعل كل ما خارجه أكثر قتامة، الألوان تتحول للرماديات، والإضاءة تقل أيضًا، في أول مشهد للخارج بعد المشهد الافتتاحي، نرى السيارات في الساحة الخارجية بشكل عشوائي في إضاءة ضعيفة وأغلبها داكنة اللون، وهو عكس الألوان الزاهية التي نراها داخل المتجر، وبشكل أساسي الأزرق وهو الزي الرسمي للعمال والأصفر لون الروافع الكهربائية. ثم نجد "كرستيان" جالسًا وحيدًا على المحطة في انتظار الحافلة التي ستأخذه إلى بيته، ومرة أخرى يكون هو الراكب الوحيد، وهو ما يختلف تمامًا عن الحياة الدائمة داخل المتجر.
لا يكتفي المخرج بطرح هذا التباين الواضح بين الداخل والخارج، بل يجعل وقفة الشخصيات في الساحة الخلفية للمتجر، وكأنها خرجت بهم من العالم المضاء إلى عالم مظلم، فإما نشاهدهم في إضاءة خافتة، أو داخل الأسوار الخارجية للمتجر بزاوية تصوير تجعلهم وكأنهم مساجين داخل هذا السور، في إشارة ربما يكون معناها أنهم بخروجهم من بين الممرات، حتى وإن كانوا لا زالوا داخل المتجر، يفقدون حياتهم الملونة.
ربما لم يحصل In the Aisles على واحدة من الجوائز الرئيسية في مهرجان برلين، ولكنه كلما عرض في أي مهرجان يُثبت نفسه كواحد من أجمل أفلام العام.
اقرأ أيضا
عن الآباء والأبناء.. عن أطفال لم يعودوا كذلك
فيلم بني آدم.. هل توجد فرصة بعد الموت؟