فيلم "يوم الدين".. رحلة إنسانية ولكن!!

تاريخ النشر: الاثنين، 24 سبتمبر، 2018 | آخر تحديث:
فيلم "يوم الدين"

لا شك أن تجربة فيلم "يوم الدين" للمخرج أبو بكر شوقي من أهم التجارب السينمائية التي شهدتها الساحة السينمائية المصرية مؤخرًا، وكان أول ظهور للفيلم وأول تعَرف للجمهور عليه كان بعد الإعلان عن مشاركته بالمسابقة الرسمية للدورة 71 لمهرجان كان السينمائي الدولي لتستمر رحلة الفيلم حتى تصل لاختياره كي يمثل مصر في التَرشح لجوائز الأوسكار في فئة أفضل فيلم ناطق بلغة أجنبية، وصولًا إلى عرضه لأول مرة بمصر من خلال مشاركته بمهرجان الجونة السينمائي ثم عرضه تجاريًا في دور العرض المصرية في آخر شهر سبتمبر الجاري.

هناك أيضا العديد من العوامل الأخرى الكثيرة التي تضمن للفيلم تفرده وتضمن لتجربة مخرجه طزاجتها، إلا أنه رغم كل هذه العوامل فعلى الفيلم بعض المآخذ التي لا تنتقص من أهميته ولا أهمية تجربة مخرجه.

تدور أحداث "يوم الدين في إطار رحلة يقوم بها "بشاي" القبطي الأربعيني المجذوم الذي يقرر بعد وفاة زوجته "إريني" بمستعمرة الجذام بأبو زعبل أن يسافر إلى موطنه الأصلي ومسقط رأسه قنا بحثًا عنه أصوله وأسرته وعائلته وعن والده الذي أودعه المستعمرة طفلا صغيرا ولم يعد ليأخذه كما وعده، رحلة يخوضها "بشاي" برفقة الطفل الأسمر اليتيم "أوباما" الذي يجد في بشاي صديقًا ورفيقًا وربما والدًا له، هي رحلة أقل ما يمكن أن توصف به أنها إنسانية خالصة في المقام الأول، يقوم من خلالها المخرج أبو بكر شوقي بتشريح غائر للمجتمع المصري من الناحية الاجتماعية والسياسية.

التهميش، القهر، الظلم، والأمل في حياة أفضل، كلها معاني تناولها وتعرض لها المخرج أبو بكر شوقي في فيلمه "يوم الدين" في إطار إنساني رقيق أهم ما يميزه هو خروج شوقي بأبطاله عن الصورة التقليدية التي تُقدم بها مثل هذه الشخصيات على شاشة السينما.

في البداية لم تكن رغبة شوقي استدرار تعاطف المشاهدين مع شخصيات فيلمه فلم يظهرهم على أنهم شخصيات سلبية أو ضعيفة تتعرض للظلم على مدار رحلتها وتبقى دائمًا في موقع رد الفعل دون فعل، فنلاحظ على سبيل المثال أن بشاي بعد لحظة معينة في حياته يقرر أن يغير مسارها، و يخرج من المستعمرة التي لا يعرف غيرها منذ أن كان طفلًا صغيرًا وينطلق عبر طرق لا يعرفها ليقابل أناسًا لأول مرة لكي يصل إلى أهله ويعرف أصله حتى يضمن أنه عند موته سيجد من يحزن لفراقه ويقف على قبره مثلما حدث لإريني زوجته عندما أتت والدتها بعد موتها ودفنها نادمة على أنها لم تزرها في حياتها ليتذكر موقف والده معه ووعده له بأن يعود إليه مرة أخرى. ذلك الوعد الذي لم يف به، بل ويتحمل بشاي مصاعب الرحلة البدنية والنفسية والمادية على أمل الوصول.

رفض بشاي أن يظل وحيدًا معزولًا ينتظر الموت فقرر المخاطرة، حتى تراجعه عن قراره وإعلانه لأوباما عن رغبته في العودة إلى المستعمرة ما هو إلا لحظة من لحظات الضعف الإنساني التي يمر بها البشر جميعًا، فكلنا تأتي علينا لحظات نشك في قراراتنا واختياراتنا وربما نتراجع ولكن ما يُعيدنا إلى المسار مرة أخرى هو مدى رغبتنا وتمسكنا بالهدف الذي نسعى إليه.

أما الطفل "أوباما" فقد نجح شوقي في رسم شخصيته بقدر كبير من الاختلاف عن طبيعة شخصية الطفل اليتيم النمطية، فهو لا يثير الشفقة على الإطلاق بل على العكس تمامًا، فكان مصدر السعادة والبهجة والأمل على مدار أحداث الفيلم، يستمد من ملامح مرحلة الطفولة المغامرة وحب الاستكشاف والتعَرف ويستمد من ملامح مرحلة الرجولة التي جبرته ظروفه على أن يعيشها مُبكرًا الجرأة في اتخاذ القرارات والإقدام وتحمل المسؤولية، فهو من ذهب ليبحث عن منزل عائلة بشاي وهو من قابل شقيقه ببساطة، هو من دعمه بل وساعده في العثور على عائلته.
لم تقتصر رحلة شوقي الإنسانية على الفيلم وأحداثه ولكن يُحسب له استعانته براضي جمال مريض الجذام المتعافي لأداء دور البطولة في الفيلم، فبعد تعَرف المخرج على مستعمرة الجذام وتقديمه لفيلم تخرجه في المعهد العالي للسينما بمصر عنهم وعن المستعمرة في فيلم قصير يحمل نفس الاسم "المستعمرة" عام 2009، قرر شوقي أن يكون مشروعه الطويل عن هؤلاء الناس، عن حيواتهم ومعاناتهم من عدم تقبل المجتمع لهم ولكنه قرر أيضًا أن يكون الفيلم بهم وليس فقط عنهم، فاستعان بجمال كبطل للفيلم وكأنه يبعث برسالة مفادها ضرورة النظر إلى هؤلاء المرضى وضرورة تفهمهم وتفهم طبيعة مرضهم، ضرورة دمج المتعافين منهم في المجتمع ومعاملتهم معاملة آدمية، فهم في النهاية لهم قلوب تنبض مثل باقي البشر، لا ينتقص مرضهم منهم شيئا ولا يعيبهم، كما يُحسب للفيلم أيضًا بعده عن الحكايات والأفكار التقليدية المستهلكة التي بتنا نراها وتقريبًا لا نرى سواها على شاشة السينما سواء تلك التي تدور في قالب رومانسي أو كوميدي أو الاثنين معًا في إطار الأكشن والمغامرات.

كما وُفق شوقي أيضًا من خلاله تشريحه للمجتمع المصري عبر رحلة بشاي وأوباما في تحليله لبعض الأمراض المجتمعية التي تعاني منها هذه الفئات المهمشة نفسها فيما بينها أو في داخلها: فمن يعانون من الظلم نراهم يَظلمون غيرهم، ومن يعانون من القهر نراهم يَقهرون آخرين، ربما لما حدث في نفوسهم من خلل نتيجة لما يتعرضون له، فمن خلال مجموعة مشاهد بشاي في أحد القرى التي مر عليها خلال رحلته وعندما ذهب بالطفل أوباما إلى المستوصف لإسعافه بعد إصابته في رأسه، نجد مجموعة مرضى فقراء في مستوصف فقير ليس به منفذ تهوية جيد على الأقل ينظرون إلى بشاي على أنه كائن وليس إنسان، حتى ملاك الرحمة أو الممرضة تطلب منه أن يترك الطفل ويبتعد كي تأخذ الطفل وتسعفه، وفي مشهد أخر نجد أحد المتسولين ينهر بشاي ويعامله بقسوة عندما يظن أنه شحاذ تعدى على المنطقة التي يمارس فيه عمله وهو التسول، صحيح أنه عاد وساعد بشاي ولكنه فعل ذلك بدافع إشفاقه على الطفل الذي كان في حالة إعياء نتيجة لعدم تناوله الطعام لفترة طويلة فربما لو لم يكن أوباما بصحبة بشاي لم يكن ليساعده، هذا إلى جانب اضطرار بشاي أن يطلق على نفسه اسم محمد خوفًا من بطش أو سوء معاملة المتأسلمين له أو اضطراره لأداء الصلاة في الجامع كي يستطيع البقاء والنوم ولو لبضع ساعات في إشارة لما بات عليه المجتمع المصري وفئات هذه الطبقة تحديدًا من عدم تقبل للأخر ربما يصل إلى مرحلة القهر.

ولكن يشوب تناول شوقي لحكايته وتشريحه الغائر للمجتمع المصري مسحة من المباشرة الشديدة في بعض المشاهد منها على التحديد مشهدين أولهما عندما تعرف بشاي على مجموعة أخرى من المنبوذين مجتمعيًا والمهمشين وذلك لأسباب تشبه سبب تهميشه فمنهم أصحاب العاهات ومنهم المرضى بأمراض تجعلهم في نفس موقفه يتعرضون للإقصاء والنفي رغمًا عنهم، وأثناء حوار يدور بينه وبين القزم المريض الذي يقرر مساعدته يأتي على لسان هذا القزم حوارًا تشوبه المباشرة الشديدة حتى أن بعض الجمل وللأسف الشديد تشرح فكرة الفيلم ومغزاه حيث يقول لبشاي في أحد الجمل الحوارية "احنا منبوذين" وهو الأمر الذي نراه ونعرفه منذ المشاهد الأولى بالفيلم ومن خلال المشاهد التي يعرفنا فيها شوقي على كل شخصية من شخصيات العمل، كما يذكر في جملة أخرى أنهم ومن مثلهم لا ينتظرون عدلًا من هذه الدنيا على الأرض أو أن تنصلح أحوالهم وطريقة تعامل الناس معهم في الدنيا بل أنهم يأملون أن يحدث هذا في "يوم الدين" وكأنها رغبة صريحة من المخرج في شرح وتفسير عنوان فيلمه، وهو ما لم يكن مضطرًا لفعله على الإطلاق خاصة وأن الفيلم غني بصريًا ومعنويًا بما يوصل هذه المعاني بشكل غير صريح ومباشر فمنذ بداية الفيلم يُجبر شوقي المُشاهد على التوحد مع شخصياته الرئيسية بداية من وجودهم داخل هذه المستعمرة المنعزلة وطبيعة عملهم اليومي كجامعي قمامة وحرمانهم من أقل حقوقهم في الحياة مثل أن يركب بشاي عربة قطار لا ينهره فيها الركاب أو أن يتعدوا عليه بالضرب والإهانة.

وحتى وعلى الرغم من تلك المآخذ على الفيلم إلا أن "يوم الدين" يظل أحد الأفلام الاستثنائية التي قُدمت مؤخرًا حيث يضع شوقي يديه على العديد من مشكلات المجتمع المصري على الصعيد السياسي والاجتماعي، فالفيلم دون ضجيج أو صخب يدق ناقوس الخطر للدولة كي تستفيق وتنظر إلى المهمشين، إلى الجنوب وأناسه ويحثها على توفير لهؤلاء البشر أبسط سبل الحياة الآدمية: رعاية صحية جيدة، طرقات يتنقلون ويسافرون عليها بأمان، أماكن مخصصة لكل من تجعله ظروفه يحتاج إلى معاملة خاصة كذوي الاحتياجات الخاصة أو من لهم طبيعة مرض مثل مرض الجذام.

بل وضرورة قيام الدولة بأداء دورها التنموي على صعيد توعية الناس من خلال التعليم والمنافذ الثقافية بطبيعة بعض الأمراض وكيفية التعامل معها فالوعي المجتمعي ليس مسئولية الناس أنفسهم وفقط ولكن جزء كبير منه تحققه وتوفره الدولة وجزء أخر من المفترض أن تقوم به مؤسسات المجتمع المدني وهو ما يحدث بالفعل في المجتمعات المتوازنة التي تحترم حقوق الإنسان وتقدر البشر.

اقرأ أيضا

الفيلم السوري "يوم أضعت ظلي".. عندما يفقد المرء روحه

الجونة السينمائي 2018- حوار "في الفن".. مخرج فيلم "يوم الدين": هدفي هو توصيل رسالة عن الفئات المهمشة ولهذا السبب استعنت بمريض جزام