رسالة تورنتو - "روما".. فيلم الأسد الذهبي يعود بكوران من الفضاء لمكسيك السبعينيات

تاريخ النشر: الأربعاء، 12 سبتمبر، 2018 | آخر تحديث:
لقطة من فيلم "روما"

قبل يومين من عرضه الجماهيري الأول في مهرجان تورنتو السينمائي الدولي الثالث والأربعين، فاز "روما Roma" فيلم المخرج المكسيكي ألفونسو كوران الجديد بأسد فينيسيا الذهبي، الجائزة الأكبر لأعرق مهرجان سينمائي في العالم، مع كتابات نقدية لم تتوقف عن مدح الفيلم منذ عُرض قبل أيام، ليرتفع مؤشر الترقب مما جعل المئات يقفون وسط عاصفة ممطرة أمام سينما أميرة ويلز Princess of Wales العريقة، في صف امتد لأكثر من نصف كيلومتر رغبة في اللحاق بالفيلم، ولحسن الحظ لم يخيب كوران أمل المنتظرين.

بعد تحقيق إنجاز فيلمي ما، يجنح المخرجون عادة إما لإعادة استغلال ما نجحوا فيه بصياغة مختلفة قليلًا، أو الابتعاد تمامًا عما سبق وخوض تجربة مغايرة كليًا. المكسيكي المخضرم ينحاز نسبيًا للخيار الثاني، فبعد خمس سنوات من فيلمه السابق المتوج بسبع جوائز أوسكار "جاذبية Gravity"، والذي كان أوديسا فضائية هوليوودية تدور خارج كوكب الأرض بتصوير إيمانويل لوبيزكي وبطولة ساندرا بولوك وجورج كلوني، ينتقل كوران إلى الضفة الثانية من كل شيء.

"روما" الذي أنتجته شبكة نتفليكس ليكون أفضل إنتاجاتها السينمائية بلا جدال بعد سنوات من إنتاج المسلسلات الرائعة والأفلام المتوسطة والرديئة، تدور أحداثه هناك في المكسيك، مسقط رأس كوران، وتحديدًا في حي روما الذي شهد طفولته، والتي يروي المخرج فصلًا منها مدته عام تقريبًا، بين 1970 و1971، وسط احتقان سياسي تشهده شوارع البلاد، واحتقان أسري داخل أسرة والده الطبيب الذي أخبر أولاده الأربعة أنه سيسافر كندا عدة أسابيع بينما في الحقيقة قرر أن يتركهم دون عودة.

ثلاثة قرارات جذرية

كوران يتخذ عدة قرارات كبيرة في الفيلم، تبدأ من أن يتحمل مسؤولية التصوير بمفرده، وهو قرار مخيف في فيلم بهذه الضخامة من مخرج اعتاد العمل مع لوبيزكي نفسه، أمر لم يقدم عليه كوران منذ أن أدار تصوير فيلم تلفزيوني قدمه عام 1990، أي بتقنيات مختلفة تمامًا. كوران لا يكتفي بالتصوير بنفسه بل يفعلها باستخدام خام 65 ملليمتر بما يعنيه من اتساع ضخم لمساحة الصورة وضرورة للمزيد من الاهتمام بأدق التفاصيل، في فيلم تدور أحداثه قبل نصف قرن من الآن.
القرار الثاني هو التصوير بالأسود / أبيض، بأناقة مدهشة لم نرها من سنوات في توظيف جماليات "المونوكروم"، مما يرتبط بالطبيعة النوستالجية للحكاية، وللطابع الروائي الذي ينتهجه السرد؛ لا أحدث كبيرة هنا، فقط وقائع حياة، نشاهدها في لقطات بانورامية عرضية بعدسات واسعة تستعرض العالم الفيلمي، عالم المكسيك في مطلع السبعينيات، وكأن كوران يستعيد بناء ذاكرته بصريًا أمام أعيننا.

ثالث القرارات هو ألا يرتكن الفيلم على مذكرات الصبي أو يجعله مركزًا للأحداث، بل إن النص يتعامل مع الأبناء الأربعة (ثلاثة أولاد وبنت) بشكل جمعي، فهم "الأولاد" وحسب، دون انخراط حقيقي في تحليل نفسية كل منهم، مثلما يحدث لشخصيتي الأم والخادمة المنتمية للسكان الأصليين، اللتين تقتسمان مساحة الأحداث تقريبًا، باقتراب مراقب ومحلل ومتفهم لكل منهما في المأزق الذي تمر به خلال العام.

كل لقطة لوحة

في عصر الصور المخلقة رقميًا يُبدع المكسيكي الموهوب في صناعة فيلم على النسق القديم: فيلم ضخم يضم ديكورات ومجاميع ومشاهد معقدة، كل لقطة في "روما" أشبه باللوحة المليئة بالتفاصيل، وعشرة مشاهد على الأقل ستبقى في ذهنك لأيام بعد المشاهدة بتفاصيلها وتكوينها البصري واللوني (بدرجات الإضاءة واللون الأسود) البديع.

لكن يبقى الأهم هو أن هذا الإنجاز البصري، الذي يستحق المخرج المصوّر الثناء عليه بشكل مستقل ـ ربما وجدناه يترشح لأوسكار التصوير بعد ثلاثة أشهر ـ الأهم إنه ليس مجرد نجاح تقني فحسب، ليست لوحات معلقة في الهواء، وإنما كل خيارات التصوير هنا مرتبطة بشكل عضوي بالحكاية وأسلوب السرد، فإذا كان "روما" هو إعادة بناء روائية لذاكرة طفولة صانعه، فإن جميع العناصر البصرية والدرامية هنا هي الكلمات التي يشغل بها كوران روايته الاستعادية.
الانتقال الرشيق بين اللقطات البانورامية الاستكشافية البطيئة واللقطات القريبة "كلوز آب" التي تغوص في أعماق الشخصيات، إلحاق أشد اللحظات قسوة بخفة ظل وسخرية مريرة نادرًا ما تخلوه ذكرياتنا عن مصائب الحياة منها، الربط بين العام والخاص بذكاء وهدوء، فحكاية الأسرة هي بشكل أو بآخر حكاية المكسيك، لكن هذا لا يُقال ولو بكلمة واحدة، فقط يُفهم مما يدور في خلفية الفيلم من وقائع، وغيرها من العناصر التي جعلت "روما" كوران واحدًا من أرق وأكمل أفلام العام، التي سيكون لها دون شك وجودًا قويًا ضمن ترشيحات الأوسكار وموسم الجوائز بشكل عام.

تتبقى الإشارة إلى نبل اختيار المخرج بجعل الشخصية المركزية في الأحداث هي خادمة الأسرة، المرأة الفقيرة البسيطة التي لا تعلم الكثير عن قسوة العالم، لكنها تعرف كيف تحبه وتتعايش معه وتعمل بجد ودأب وحب جعلوها بطلة سيرة الذاكرة الخاصة برجل رأي كل شيء في العالم لكنه لم ينس أثر هذه الخادمة البسيطة عليه.

جدير بالذكر أن فيلم "روما" سيكون متاحًا للمشاهدة على منصة "نتفليكس" خلال الأسابيع المقبلة بعد انتهاء جولته في المهرجان.

اقرأ أيضا

رسالة تورنتو- "ليل / خارجي".. عن صراع الطبقات وسحر السينما في مدينة مجنونة

"بني آدم".. حكاية بلا بداية ولا وسط ولا نهاية