رسالة تورنتو- "ليل / خارجي".. عن صراع الطبقات وسحر السينما في مدينة مجنونة

تاريخ النشر: الاثنين، 10 سبتمبر، 2018 | آخر تحديث:
لقطة من فيلم "ليل / خارجي"

على مدار أربعة أفلام روائية طويلة سابقة تمكن المخرج أحمد عبد الله السيد من تأسيس اتجاه سينمائي عام وخاص، فعلى المستوى العام هو المخرج الأكثر نشاطًا فيما يمكن تسميته بالسينما المستقلة أو المغايرة أو الموجة المصرية الجديدة، لم يصل أحد مخرجي الموجة إلى الفيلم الخامس إلا من حوّل بوصلته نحو الصناعة السائدة. على المستوى الخاص ظل لعبد الله هوسًا دائمًا بالتجريب: يمزج العناصر الروائية بالتسجيلية ويصوّر أفلامه دون سيناريو في "هليوبوليس" و"ميكروفون"، يصنع فيلمًا يخلو من الحوار في "فرش وغطا"، ويجنح للتصوير بالأسود / أبيض في "ديكور"، وغيرها من أشكال التجريب المستمر.

ورغم قيمة هذه التجارب في مسار السينما المصرية، إلا أن وضوح التجربة ظل دائمًا يقف بين الفيلم والمتلقى، بمعنى إنه حتى أكثر المعجبين بأفلام عبد الله كان لا بد وأن يمر للفيلم من بوابة التجربة، لا بد وأن يفكر فيها ويضعها في اعتباره عند تقييم الفيلم، حتى أن الإنجاز البصري في "فرش وغطا" - على سبيل المثال ـ قد شابه ضرورة التفكير في التكنيك السردي بالإخفاء المتعمد للحوار، أو بصياغة أخرى كانت جرأة المخرج تدفعك دفعًا لأن تفكر فيما تراه باعتباره تجربة مدخلها هو الأسلوب، وحتى لو أردت أن تحيّد هذا وتنظر للفيلم كفيلم، كان هذا من الصعوبة بمكان.

في فيلمه الخامس "ليل / خارجي"، والذي أقيم عرضه العالمي الأول قبل ساعات ضمن قسم "سينما العالم المعاصرة" في مهرجان تورنتو السينمائي الدولي الثالث والأربعين، يتمكن أحمد عبد الله أخيرًا في إسقاط الحاجز بين الشكل والمضمون، بين التجربة والفيلم، ليصنع أكثر أعماله كلاسيكية، وأكثرها طرافة وعمقًا وقربًا من القلب.

ثلاث شخصيات.. ثلاثة عوالم

لا يعني ما سبق أن صناعة "ليل / خارجي" تخلو من التجريب، فالحقيقة أن إنتاج الفيلم دون وجود جهة إنتاج تمتلك ميزانية كافية، ودون السعي لجمع مصادر تمويل معتادة من صناديق الدعم، والاكتفاء بالجهود الذاتية والعمل بأقل التكاليف دون تنازل عن جودة الصورة، هي في حد ذاتها تجربة تستحق الإشارة والإشادة. لكن الأهم هنا إنها تبقى في خلفية العمل، مجرد معلومات قد يعرفها أو لا يعرفها المشاهد، وله حرية الانشغال بها أو تجاهلها لحساب فيلم متماسك وممتع وثاقب النظرة، بغض النظر عن سياقه الإنتاجي أو أي معلومات أخرى عن كواليس صناعته.

تبدو قصة الفيلم بسيطة، لقاء عابر ترتبه الظروف بين مخرج شاب يحلم بتقديم فيلمه الثاني (كريم قاسم) وسائق تاكسي (شريف دسوقي) وفتاة ليل (منى هلا)، تتضافر الظروف والرغبات وصراعات القوى لتدفعهم لقضاء ليلة معًا في شوارع القاهرة، لتُمثل العلاقة بين ثلاثتهم ميكروكوزم أو صورة مصغرة لديناميات القوة في مجتمع العاصمة المصرية.

المخرج محمد أو "مو"، خريج الجامعة الأمريكية المنشغل بهواجس فنية ومشكلات عدم تحقق في مدينة يصعب أن تقتصر مشكلاتك فيها على الأفكار المجردة، السائق "مصطفى" بما يجتمع داخله من متناقضات يعرفها كل مصري؛ الخبث والشهامة والفخر الذكوري والطيبة التي تصل أحيانًا للسذاجة، والعاهرة "توتو" التي تفتقر حتى لذكورة مصطفى، فهي من هامش الهامش (امرأة فقيرة تمارس عملًا غير مشروع)، وبالتالي فسلاحها الوحيد هو ذكائها وقدرتها على التعامل مع المواقف، تارة بالغواية وأخرى بالضعف والاستكانة.

السيناريو الذي كتبه شريف الألفي لا يخفي أن كل شخصية تمثل شريحة كبرى من المجتمع المصري، بل يطرح هذا الجدل للنقاش باستمرار من خلال الحوار بين الشخصيات وموجات الانقباض والانبساط التي تواكب صراع القوى بين الرجلين من لحظة لقائهما حتى نهاية الفيلم. لكن بناء الحكاية والشخصيات يجعل من اليسير تقبل هذا الطرح الفكري دون أن يعيق المشاهدة والاستمتاع؛ ربما لأننا نخوض هذا النوع من المواجهات الطبقية والجندرية المستترة بشكل يومي وإن لم يكن بنفس الحدة، أو لأن الإيقاع المتصاعد للأحداث وطرافة الشخصيات وما تتعرض له تجعلنا نتفهم أن يخوضوا هذا النوع من النقاشات، ففي مواجهات كهذه من المنطقي أن يلوذ كل إنسان بمنظومة دفاعية ما، هي بالضبط ما احتاجه صناع "ليل / خارجي" لصياغة فيلمهم الشيّق.

قيمة اللحظة والبحث عن السحر

يمكن تلخيص مهنة الإخراج ـ على الأقل تقنيًا ـ في محاولة دائمة للعثور على أفضل العناصر، ومزجها معًا من أجل صناعة لقطات فيلمية لا يكفي أن تحمل رؤية المخرج ووجهة نظره، بل يجب أن تحقق بعض لحظات من السحر، من المتعة الخالصة التي تشعر عندها بأنه لا أحد يمكنه أن يصنع هذه اللحظة بذلك الشكل سوى صاحبها، وهو الهدف الذي ينجح أحمد عبد الله بشكل ملفت أن يبلغه في عدة لحظات على مدار فيلمه يمكن اعتبارها وحدها سببًا كافيًا للإعجاب بالفيلم.

البداية مع التوفيق الشديد في اختيار الممثلين؛ الذين لا يكفي أن يكون كل منهم موهوبًا بشكل مجرد، بل يجب أن يتوافر هذا القدر من التناغم بين ثلاثتهم، أو للدقة بين الأربعة، بإضافة أحمد مالك الذي يواصل أخذ خطوات واسعة يثبت فيها إنه الأمل الحقيقي لفن التمثيل في مصر، هذه المرة بلعب شخصية جديدة تمامًا على السينما المصرية، رغم إنها صارت موجودة بكثافة بين الأجيال الشابة في المناطق الشعبية. شخصية تبدو نافرة ومستقلة بعالمها، رافضة للتناغم الحاكم لمدينة مجنونة كالقاهرة، وكأنها في كل لحظة تُبشر بمواجهة آتية لا ريب، سيكون من الحتمي فيها أن ينكسر أحد الطرفين ـ جيمي أو القاهرة ـ وينصاع للآخر.

العنصر الثاني الموفق كان التصوير، والذي يقوم به المخرج بنفسه هذه المرة، فأحمد عبد الله هو مخرج ومدير تصوير الفيلم، في قرار راديكالي ربما ارتبط بأسباب إنتاجية: أن يتم التصوير بكاميرا خفيفة من نوع كانون، لكنه أسفر في ظل الاختيار الجيد لمواقع التصوير والاستفادة من خليط الألوان والأضواء المميز لليل القاهرة في خلق صورة طازجة للمدينة، حتى في الأماكن التي قُتلت تصويرًا مثل المراكب النيلية، يظل "ليل / خارجي" قادرًا على تقديمها بصريًا بشكل جديد ومشبع.

إلا أن أفضل العناصر على الإطلاق هو شريط الصوت، الذي ينطلق عبد الله فيه من نفس المنطق الحاكم للصورة؛ المزيج الصاخب الذي تجتمع فيه العشوائية بالرقة بجماليات الكيتش وقبحه في آن، والذي يصيغه المخرج بشكلٍ خلاق عبر توظيف مجموعة ضخمة من الأغنيات والأصوات: أم كلثوم وإنشاد ديني وأغاني مهرجانات وأصوات محمد حماقي وشيرين عبد الوهاب، وأصوات شجار واحتفالات وصخب سيارات ورنات هواتف محمولة. عالم صوتي كامل نعيشه يوميًا دون أن نلتفت لتفاصيله، ليأتي أحمد عبد الله لنا بها ويستخدمها في صياغة لحظاته من السحر.

نصل للنهاية بالإشارة لهذه اللحظات التي لا تُنسى. كل من سيشاهد "ليل / خارجي" في عروضه المقبلة سيكون من الصعب أن يُخرج من ذهنه مشاهد مثل الزفاف النيلي، ووصول "جيمي" على دراجته النارية، والعشاء في المطعم الشعبي. مشاهد قد تبدو لو قرأتها على الورق جيدة على الأكثر، لكن الفارق بين ما يسرده المشهد وشكل هذا السرد، هي مساحة الإبداع التي ملأها أحمد عبد الله السيد كما لم يفعل من قبل؛ ليستحق "ليل / خارجي" الاستقبال الجيد الذي ناله من جمهور تورنتو، في انتظار أن يشاهده سكان المدينة التي يحتضن ليلها وشوارعها أحداثه.

اقرأ أيضا

"بني آدم".. حكاية بلا بداية ولا وسط ولا نهاية

"تراب الماس".. عن فنان موهوب وجد ضالته أخيرًا