انتهت أخيرًا مسابقة مهرجان كان السينمائي الدولي الواحد والسبعين. 21 فيلمًا تُمثل قمة الإنتاج السينمائي في العالم عُرضت على مدار 11 يومًا لآلاف الصحفيين والسينمائيين والمحترفين، شاهدناها جميعًا وتعرضنا لها بالتحليل. وفي هذه المجموعة الأخيرة من المشاهدات أفلام وفرها المهرجان لأيامه الأخيرة بحثًا عن ختام قوي، تحقق بالفعل مع أفلام التركي نوري بيلج جيلان والإيطالي ماتيو جارون، وجذب أنظار العرب بفيلم اللبنانية نادين لبكي الجديد.
دوجمان Dogman ـ إيطاليا
الإيطالي المخضرم ماتيو جارون هو أحد الأعضاء الدائمين في نادي كان، وحضوره دائمًا مؤثر مثلما في فاز في مشاركته الأخيرة بجائزة لجنة التحكيم الكبري (جران بري) عام 2012 عن فيلمه الدرامي "حقيقة". جارون يعود بعمل كبير، لا تقل قيمته الفنية عن جاذبيته الجماهيرية وهذا إنجاز في حد ذاته. مع عودة لعوالم العصابات والحياة السفلية التي منحته الشهرة في فيلمه الشهير "جومورا"، الفائز بالجران بري أيضًا عام 2008.
دوجمان هو مارسيلو، الرجل الهادئ ضعيف البنية الذي يمتلك متجرًا لرعاية الكلاب في منطقة بعيدة عن اهتمام السلطة أو سيطرتها. يمتلك علاقة خاصة بالكلاب لا يفوقها سوى تعلقه بابنته الوحيدة التي تعيش مع والدتها، وهو الوحيد في المنطقة الذي يمكنه التعامل بشكل أو بآخر مع عملاق بلطجي من النوع الذي لا يسير إلا والمصائب معه. مصائب سرعان ما تسحب مارسيلو تدريجيًا رغمًا عن إرادته، ليجد نفسه مجبرًا على مواجهة الشيطان بنفسه.
مواجهة الشيطان هنا تأتي بمعناها المباشر والرمزي، فالفيلم يطرح في أحد مستوياته سؤال: ما الذي يجذب البشر إلى الشر؟ وما الذي يدفع شخصًا يمكن تقييم شخصيته إجمالًا بالخير والطيبة مثل مارسيلو (رغم ممارسته تجارة المخدرات على مستوى الحي) أن يعاني من هذا الضعف أمام وحش يكاد كل تصرف يقدم عليه أن يصرخ بأنه سيتسبب لصاحبه في كارثة.
المدهش أننا نصدق مارسيلو، ولا نملك إلا أن نتفهم أفعاله ونحن نحذره من تبعاتها، انطلاقًا من سيناريو مدهش يرسم دستوبيا كاملة في العالم السفلي للضواحي الإيطالية، ويدعمه المخرج بخيارات بصرية تزيد من كآبة المحيط الفيلمي، وتوظيف ممتاز لوجود الكلاب بصورة دائمة كموتيفة درامية وبصرية لا يمكن فهم الفيلم كاملًا بمعزل عن دلالاتها. وقبل كل هذا أداء مدهش من الممثلين الرئيسيين مارسيلو فونتي وإدواردو بيسكي، اللذين يبدوان من كثرة تماهيهما مع الشخصية وكأنهما هواة اختارهم المخرج بناء على هيئتهم، لكنهما ممثلين محترفين قد يكون لأحدهما (خاصة فونتي) نصيبًا في جائزة التمثيل.
التقييم: **** من خمس نجمات
كفرناحوم – لبنان
مزيج مثير من عناصر بالغة التميز وعناصر شديدة التواضع تقدمها نادين لبكي في فيلمها الثالث ومشاركتها الأولى في المسابقة الدولية لمهرجان كان. "كفرناحوم" خطوة للأمام تقطعها لبكي على مستوى تماسك الفيلم كوحدة واحدة، تقوم فيه لبكي للمرة الأولى بمغادرة العوالم الحالمة والمخملية لتغوص في أعماق العشوائيات اللبنانية. في الولايات المتحدة هناك اتجاه في الأعوام الأخيرة لأفلام "الحثالة البيضاء" أو White Trash من يعيشون على هوامش المجتمع كالحشرات. ربما يكون هذا أول "وايت تراش" لبنان، وإن كان اللون ليس أبيضًا، بل مزيج من العربي والأسود.
زين (زين الرافعي في أداء مدهش) طفل في الثانية عشر من عمره، محكوم عليه بخمس سنوات سجن بعدما طعن شخصًا، يذهب للمحكمة من أجل رفع دعوة على والديه لأنهما أنجباه في هذا العالم. تبدو المخرجة مهووسة بهذا المدخل الخيالي لدرجة جعله الإطار الدرامي الحاكم للفيلم، وتضمين حوار الطفل كملخص للفيلم، والمشهد كمقتطع ترويجي، وكأن هذه المحاكمة هي درة العمل.
هوس نعتبره في غير محله، فعلى العكس من تصوّر لبكي، هذا الخط هو أحد أسوأ عناصر الفيلم، سواء في خيالية الفكرة التي تدخلنا إلى فيلم شديد الواقعية والقسوة من مدخل عالم فانتازي يمكن فيه أن يُسمح بتمرير دعوى كهذه (لو كان هذا ممكنًا لما عاش زين حياة كحياته من البداية)، أو في كسر العودة إلى المحكمة الإيقاع السردي في كل مرة نندمج فيها مع الحكاية، أو فيما يسهم فيه هذا الخط من تمييع القضية (وهو فيلم قضية بامتياز)، بل وتبدو النهاية وكأنها تصالح مع ما ترتكبه أسر مثل أسرة الطفل من جرائم في حق أبناء يتم إنجابهم دون حساب.
هناك إنجاز مشهود على مستوى الصورة، نشاهد لبنان هنا كما لم نره من قبل على الشاشة، وإن عاب هذا النقل انعدام خصوصيته، فالمكان هو عشوائيات فقيرة يمكن أن توجد في أي بلد. لكن هذه الواقعية الخشنة تتعارض طوال الوقت مع الميلودرامية التي تحكم الأحداث، والإصرار على توريط مشاعر الجمهور بكل الحيل الممكنة في القصة والصورة والموسيقى. إخلاص لا تتراجع عنه لبكي للسنتمنتالية السينمائية كان من الممكن أن يمر في فيلميها السابقين لكنه هنا ـ وبفعل مأساوية القصة ـ يتحول لاستجداء مستمر للتعاطف لم يكن الفيلم في حاجة إليه، لا سيما مع الاختيارات الرائعة لجميع الممثلين.
"كفرناحوم" محير في كونه مزيج من الجودة والتواضع، في خطوات تقطعها نادين لبكي للأمام وأخرى للخلف، وفي كونه فيلمًا صالحًا للتتويج في سياقات إنسانية ونسوية (وبدرجة أقل سينمائية)، قدر إمكانيه تجاهله بشكل كامل في اختيارات لجنة التحكيم.
التقييم: **ونصف من خمس نجمات
سكين في القلب Knife + Heart – فرنسا
لو كان الأسلوب كافٍ لصناعة فيلم جيد لكان لفيلم المخرج يان جونزاليز الثاني شأن آخر، لكن للأسف المخرج الذي اهتم كثيرًا بشكل وأسلوب فيلمه لم يضع اهتمامًا موازيًا في المحتوى أو الحكاية ليضيع مجهوده الأسلوبي دون طائل في واحد من أكثر أفلام المسابقة إحباطًا وإثارة للملل.
ينطلق جونزاليس من فكرة بالغة الجاذبية: في عام 1979، آن (فانيسا بارادي) منتجة أفلام إباحية للمثليين تعيش مرحلة شخصية صعبة بعد انفصال لا تريده عن حبيبتها، قبل أن يبدأ فريقها السينمائي في التعرض لهجمات متتالية من قاتل متسلسل خفي يقوم بقتل المثليين بصورة وحشية. قصة كانت كفيلة بوضع الفيلم في معظم قوائم الأعمال المترقبة قبل بدء المهرجان.
إلا أن المشاهدة كشفت تعثر الحكاية في التطور أكثر من هذا الملخص. اجتهد المخرج في تقديم أسلوب يحاكي أفلام الفئة B وأفلام السبعينيات الإباحية، بالتصوير بخام السينما 35 ملليمتر والاعتماد على خدع ومؤثرات العمل بالخام، مع المزج في لقطات معينة بخام 16 ملليمتر، والتوظيف المحكم للديكور والملابس والألوان لمحاكاة زمن الفيلم، ومسويقى مستوحاة من نفس الزمن وضعها شقيق المخرج نجم الروك المعروف باسم M83.
بالتوازي مع هذا النجاح الأسلوب جاء الفشل الدرامي، بتعثر الحكاية مبكرًا جدًا عن السير في أي اتجاه مقبول، سواء في الخط التشويقي المتعلق بالقاتل أو الخط النفسي المرتبط بانفصال البطلة، لتبدأ سلسلة لا تنتهي من المواقف المختلقة التي لا تتطور للأمام أو تسفر عن أي لحظة تنوير أو حتى إثارة. لتكون النتيجة فيلم خارج محبط لكل من ترقبه.
التقييم: ** من خمس نجمات
أيكا Ayka – كازاخستان
كثيرة هي الأفلام التي تتناول حياة المهاجرين الفقراء، من أي بلد وإلى أي بلد، فحال العالم الآن هو ترحال مستمر يقطعه البشر بحثًا عن ظروف حياة أفضل، وأحيانًا عن ظروف حياة فقط. وإذا كانت أفلام عديدة تتناول هجرة الروس إلى غرب أوروبا، ففيلم المخرج كازاخي المولد روسي الجنسية سيرجي دفورتسيفوي يروي تبعات هجرة امرأة كازاخستانية إلى روسيا.
يبدأ الفيلم بالبطلة أيكا تترك وليدها الذي وضعته للتو في مستشفى عام وتهرب من النافذة إلى ثلوج الطريق بينما لا يزال نزيف ما بعد الحمل يجعلها غير قادرة على الحركة بشكل طبيعي، لنقضي مع أيكا أربعة أيام وليال نتعرف فيها على مأزقها، مع أقل القليل من المعلومات عنها وعن سبب هجرتها المفهوم ضمنًا.
بكاميرا محمولة وتصوير واقعي تمامًا يتابع المخرج رحلة البطلة في العالم السفلي للعاصمة موسكو، عالم المهاجرين غير الشرعيين الذين يعيشون بالعشرات في شقة واحدة، يعملون مقابل قروش يدفعونها كرشاوي لاستمرار وجودهم، والذين لا يتوقفون ولا يتوقف العالم حولهم عن الحركة.
والحركة في الفيلم تيمة بصرية ثابتة، فلا لحظة ثبات طوال المائة دقيقة، الكل يتحرك بسرعة وعشوائية وانعدام تعاطف أو حتى انتباه لامرأة تعيش مأساة مكتملة الأركان. في هذا التعامل الخال من العواطف ومن مثيراتها يكمن فارق بين "أيكا" و"كفرناحوم"، والفيلمان عُرضا بفارق ساعات معدودة، فبينما يتناول كل منهما العالم السفلي في عاصمة قاسية، فتأثير جفاف الفيلم الكازاخي أكبر من تأثير السنتمنتالية اللبنانية.
موتيفة أخرى يستخدمها دفورتسيفوي بنجاح هي الحيوانات، فعلى مدار الأحداث يتقاطع مسار البطلة مع الحيوانات في أكثر من مكان، مثل عملها في مجزر للدواجن ثم انتقالها لعيادة بيطرية، ليضع الفيلم بشكل مباشر مقارنة دائمة بين وضع البشر والحيوانات، بالصورة فقط وفي سياق درامي مقنع دون أي حديث أو خطابة.
غير أن "أيكا" يعيبه عدم الإتيان بالجديد، فمحتواه يتشابه مع كل أفلام مآسي الهجرة غير الشرعية من أي مكان ولأي مكان، فسواء كانت البطلة كازاخية في روسيا أو روسية في ألمانيا، كان من الممكن أن نتوقع مشاهدة نفس ما شاهدناه.
التقييم: *** من خمس نجمات
شجرة الآجاص البرية The Wild Pear Tree – تركيا
تعمدت إدارة مهرجان كان برمجة فيلم المخرج التركي الأشهر نوري بيلج جيلان ليكون آخر فيلم يُعرض في المسابقة، بل وآخر فيلم يُعرض في المهرجان بشكل عام، فحتى فيلم الختام "الرجل الذي قتل دون كيخوته" أقيم له عرض صحفي يسبق فيلم جيلان، وكأن "شجرة الآجاص البرية" هو تتويج لدورة يمكن القول بإنها ناجحة جدًا على صعيد الاختيارات.
جيلان هو أحد أباطرة السينما العالمية حاليًا، ومجرد وجوده يضعه في قائمة المرشحين للتويج، كيف لا والرجل يمتلك رقمًا قياسيًا بخمس مشاركات متتالية في كان نال فيها جميعًا جوائز آخرها وأكبرها السعفة الذهبية عام 2014 عن "سبات شتوي"، الفيلم الذي غيّر فيه جيلان أسلوبه المائل للصمت إلى سينما لا تتوقف عن الحديث، وها هو يستمر على النهج نفسه في الفيلم الجديد.
"شجرة الآجاص البرية" فيلم متكلم، لا يتوقف فيه الحوار إلا في دقائق قليلة على مدار 188 دقيقة هي زمن الفيلم (أطول أفلام المسابقة). لكنه ليس حوارًا من النوع الذي يُنصح بعدم الإفراط فيه، بل هو حوار بالغ الذكاء والعمق، يتعرض لموضوعات متشعبة بنفس القدرة على إثارة التفكير والارتباط بدراما الفيلم وموضوعه الرئيسي: العلاقة بالجذور، بالأب والعائلة والوطن بشكل عام.
رواية سينمائية بكل ما تحمل الكلمة من معانٍ، بتعدد شخصياتها والثراء الهائل في تركيب كل شخصية، وعلى رأسها شخصيتين الابن والأب. الابن العائد بعد التخرج من الجامعة والحالم باحتراف الكتابة ونشر روايته الأولى والحائر بين خيارات محدودة لمستقبله المهني، والأب المتصالح مع حياة كاملة من الفشل المهني والمادي والأسري. الإحباط المتبادل والحب المغلف بالكراهية يجعل من علاقة الابن سنان والأب أدريس واحدة من أعقد وأغنى العلاقات الدرامية التي شاهدناها في الأعوام الأخيرة، وهو وصف غير غريب بالمرة على سينما نوري بيلج جيلان.
الفيلم يسير من اللحظة الأولى بإيقاع هادئ تمامًا، الإثارة فيه تنبع من داخل الدراما وديناميات العلاقة بين الشخصيات، بينما لا تحدث أمور كبيرة في المستوى الظاهر للحكاية، وهي أيضًا سمة مميزة لأفلام جيلان لكنه يأخذها لمنحى أكثر تطرفًا هذه المرة، بصورة قد تجعل "شجرة الآجاص البرية" من أقل أفلامه شعبية، فحتى بين الصحفيين شهد العرض الصحفي مغادرة الكثيرين في وسط الفيلم. هو فيلم ليس صالحًا لمن لا يأخذ السينما على محمل الجد، المستعد لبذل بعض الجهد العقلي ولعب دورٍ نشط في المشاهدة.
لكن وبكل المعايير يبقى فيلم جيلان الجديد أفضل ختام ممكن لكان 71، ويضع نفسه في اللحظات الأخيرة ضمن قائمة الأفلام الأفضل والمرشحة بقوة لسعفة الذهب.
التقييم: **** من خمس نجمات
اقرأ أيضا
سباق السعفة الذهبية (3): ظهور أندرو جارفيلد وسبايك لي.. وفيلم كوري يدخل المنافسة بقوة
سباق السعفة الذهبية (2): كوريدا يتألق.. بناهي يعود.. وجودار خارج التقييم
سباق السعفة الذهبية (1): عمل رائع لأستاذ السينما البولندية يقاسم الفيلم المصري الصدارة