قطرات من ماء المطر تتساقط على نافذة الحافلة التي تستقلها "إليزا" إلى مقر عملها ليلا، قطرات تمتزج وتتوحد لتصبح شيئا واحدا، مكتملا، كشعورها أثناء ممارسة الحب مع كائن برمائي غريب الشكل غيّر حياتها ومنحها السعادة.
هذا المشهد القصير الذي لا تتجاوز مدته دقيقة واحدة على الشاشة يعبر عن شكل الحب الذي غمر قلب "إليزا" بطلة فيلم The Shape of Water، للمخرج المكيسيكي جييرمو ديل تورو، حب اجتاحها مثلما تجتاح الماء كل شيء، وجعلها قوية قادرة على المحاربة من أجل من تحب، رغم هشاشة جسدها وهامشية مكانتها في المجتمع. فشخصية مثل "إليزا" تتوفر فيها كل الصفات المطلوبة لخوض مغامرة رومانسية مع حبيب لا ينتمى لبني البشر، لأنها قادرة على تقبل الآخر مهما كان شكله أو لونه أو جنسه، تتواصل بلغة الإشارة، وتحب السينما الكلاسيكية، وتتراقص على أنغام الموسيقى. حالمة وخيرة أشبه بأميرات عالم الأساطير، أميرة بلا صوت، كما وصفها جارها في بداية الحكاية.
بعد مرور ما يزيد عن 10 سنوات على فيلمه ذائع الصيت Pin’s Labyrinth، يعود المخرج المكسيكي بفيلم جديد يمزج بين سحر الحكاية الخرافية والحدث السياسي الجاد، وينجح في اقتناص 13 ترشيحا لجوائز الأوسكار. تدور القصة في فترة الستينيات من القرن الماضي، حيث الحرب الباردة بين الولايات المتحدة وروسيا، وتركز على "إليزا" عاملة نظافة بكماء في أحد المختبرات الأمريكية لأبحاث الفضاء، تلتقى أثناء عملها بكائن برمائي، أحضره أحد العسكريين من أمريكا الجنوبية لإجراء دراسات عليه بعدما كان بمثابة إله لسكان الأمازون الأصليين. تتقرب منه حتى تقع في حبه، وتقرر إنقاذه من الرجل العسكري الذي يتلذذ بتعذيبه ويسعى إلى قتله، وذلك بمساعدة زميلتها "زيلدا"، وجارها "جايلز" والطبيب "بوب أو ديميتري" الذي يعمل جاسوسا لصالح المخابرات الروسية.
اختار ديل تورو كعادته بناء الحكاية الخيالية ليعبر بها عن العالم المثالي الذي يتمنى تحقيقه على أرض الواقع، خاصة وأن الشخصيات في العالم الحقيقي يلفظهم المجتمع لاختلافهم وتجمعهم الوحدة. "إليزا" اليتيمة التي تشعر أنها ناقصة لعدم قدرتها على الكلام، وتعيش وحيدة بلا حبيب، و"جايلز" الرجل العجوز مثلي الجنس الذي يفشل في العثور على شريك لحياته، و"زيلدا" المرأة صاحبة البشرة السمراء التي ينظر إليها المجتمع على إنها أقل شأنا، وتعاني من صمت زوجها وعدم تقديره لأفعالها. هؤلاء الأشخاص رغم معاناتهم اليومية لديهم من الإنسانية ما يكفي للمغامرة بكل شيء من أجل إنقاذ كائن مختلف عنهم. في العالم الخيالي هم أبطال قادرون على فعل الكثير من الأشياء من أجل الآخر.
الوحش في أفلام ديل تورو ليس الكائن غريب الشكل وإنما الإنسان السادي الذي لا يعبأ لإراقة الدماء. ففي فيلم Pin’s Labyrinth، لم تخف الطفلة "أوفيليا" من الكائنات الغريبة التي التقت بها في المتاهة، لكنها كانت تخشى من الجنرال زوج والدتها القاسي الذي يتلذذ بتعذيب الآخرين. وفي هذا الفيلم لم يختلف الأمر كثيرًا، بل أن الكائن الغريب قادر على تعلم لغة الإشارة والاستجابة إلى الموسيقى، فيما يظهر الضابط العسكري شخصًا مريضًا يستمتع بضربه وإذلاله. لكن تطرف شخصية الضابط –هذه المرة- لم يكن مقنعا بالقدر الكافي، خاصة وأن دافعه في البداية لتعذيب البرمائي غير مبرر، يمكن الأمر أصبح منطقيا فيما بعد حينما فقد عددا من أصابعه بسببه.
الحالة السينمائية التي خلقها ديل تورو لا يمكن مقاومة سحرها وتأثيرها الجميل على النفس، فالأحداث معظمها في الليل حيث عالم الأحلام والحكايات، والبناية التي تقيم فيها "إليزا" أسفلها دار عرض سينمائية تمثل نافذة منفتحة على الأفكار الجديدة والثقافات الأخرى، والتلفاز في المنزل يعرض أفلاما كلاسيكية واستعراضات غنائية محببة إلى القلب. فقد تمكن المخرج المكسيكي من مزج شريط الصوت مع الصورة لينقلنا إلى عالم الفنون العابر للحدود واللغات، الذي يجمع كافة أنواع البشر مهما تباينت ظروفهم أو أشكالهم أو ميولهم.
هذه الحالة البصرية البديعة طغى عليها اللون الأخضر على مدار الفيلم، اللون الذي نظن في البداية أنه لون المستقبل المشرق والأحلام المحققة، لكن يتضح أنه لون الركود والثبات والأفكار الرجعية التي ترفض التغيير. في المقابل، يمثل الأحمر لون التحرر والحب، والتمرد على التقليدية. ففي بداية الأحداث، نرى "إليزا" مرتدية ملابس خضراء اللون طوال الوقت، ثم مع وقوعها في الحب، تضع رابطة شعر حمراء، وتتجرأ لدرجة سب الضابط السادي بلغة الإشارة، وفي النهاية نراها تواجه الموت بكل شجاعة مرتدية ملابس حمراء اللون. يتضح الفرق بين اللونين أيضًا مع "جايلز" الذي يختار في إحدى اللوحات التي يرسمها ويحاول بيعها، اللون الأحمر لحلوى "الجيلي"، لكن يخبره وسيط المشتري أنهم يريدون اللون الأخضر لأنه يمثل مستقبل العائلة السعيدة وبالتأكيد يتناسب مع فكرة الحلم الأمريكي. فيما يعبر اللون الأصفر عن التوازن بين الدرجتين، أو ربما هو أقرب للأحمر المتمرد، لأنه كان لون الهاتف الذي استخدمته "زيلدا" لتحذير "أليزا" من الضابط رغم علمها بخطورة هذا الفعل.
فيلم The Shape of Water ينتمي إلى نوعية من الأفلام تتباين الآراء حولها، لأن عالم الفانتازيا لا يروق إلى البعض ويتم النظر إليه على اعتبار أنه ساذج وطفولي، لكن من يهوى هذا النوع، بالتأكيد سيعجب كثيرًا بفيلم جييرمو ديل تورو، والعالم الساحر الذي خلقه ليعيد التأكيد على أفكار ومفاهيم ما زال العالم يجاهد من أجل تحقيقها.
اقرأ أيضًا:
محاكمة أخلاقية لأوسكار 2018.. تعرف على الانتقادات الموجهة لأفضل أفلام العام
بالصور- تعرف على حقيبة الهدايا التي سيحصل عليها مرشحو أوسكار 2018.. "الجميع فائزون"