ستيفين سودربرج من المخرجين الذين تميزوا في الانتقال بين الكثير من الأجناس السينمائية بسلاسة، مع الحفاظ على حد أدنى من الجودة في معظم أفلامه، بالطبع لم تعد أفلامه الأخيرة تحمل تميزًا مثلما كانت أفلامه الأولى، لكنه لا يزال محافظًا على حبه في التنقل بين مواضيع جديدة.
في إطار القسم الرسمي خارج المسابقة بمهرجان برلين السنيمائي عُرض فيلم سودربرج الأحدث Unsane أو"المختل"، الفيلم ينتمي إلى نوعية الدراما النفسية والتشويق، مبتعدًا عن الكوميديا والجريمة التي حضرت في معظم أفلامه الأخيرة.
لكن التجديد في الحقيقية ليس في موضوع الفيلم بل في طريقة تصويره، المخرج صور فيلمه بالكامل بكاميرا iPhone.
تحت الحصار
قبل التطرق إلى طريقة تصوير الفيلم وتأثيرها عليه، ينبغي التعرض للفيلم نفسه. تدور قصة الفيلم عن سواير (كلير فوي) التي تذهب إلى معالج نفسي للتحدث عن خوفها من شخص يطاردها ويرغب في الزواج منها، لتُجبر على البقاء داخل مستشفى نفسي رغمًا عنها، وهناك تفاجأ بوجود نفس الشخص الذي يطاردها في طاقم المستشفى.
الفيلم من كتابة جيمس جرين وجوناثان برينستن، اللذان يعملان معًا عادة، على مستوى السيناريو توجد متناقضات عديدة بين الجيد جدًا والمتواضع جدًا.
كانت بداية الفيلم وسير الأحداث من إيجابيات السيناريو إذ ندخل في قلب الحدث سريعًا، دون تضييع الوقت في تفاصيل لن تضيف إلى المشاهدة، ولزيادة جانب التشويق، أخفى السيناريو سر العلاقة التي تربط بين سواير ومُطاردها ديفيد (جوشوا ليونارد)، وتأتي تتابعات النهاية أيضًا لتحمل عدة مفاجآت وكسر للتوقعات بشكل جيد.
بقدر ما كان الإيقاع سريعًا لكن لم يكن هناك اهتمام كافٍ بالتعريف ببقية الشخصيات في المصحة، فمنذ أول مشاهد دخول سواير لغرفتها نجد أن هناك نيت (جاي فارو) يرغب في مساعدتها وفي مقابله فايوليت (جونو تيمبل) تكرهها دون أية مبررات.
في الوقت نفسه شتت السيناريو انتباهنا في ثلثه الثاني حول محور الأحداث بعد دخول البطلة إلى المستشفى، إذ تتبادل حوارًا طويلًا مع نيت، يوضح لها فيه فساد منظومة المستشفى التي تستغل شركات التأمين وتجبرها على الإنفاق على المريض بحجة أنه يحتاج إلى البقاء داخل المستشفى، مما يجعلنا نذهب إلى كيفية خلاص سواير من هذه المصحة المخالفة للقوانين والقائمين عليها، كل هذا قبل أن تقابل مُطاردها لاحقًا لننسى المستشفى مؤقتًا وينصب التركيز مع الشخصيتين الرئيسيتين.
لعبت الصُدف كذلك دورًا أساسيًا في الأحداث بشكل أفسد منطقيتها، لنجد أن هناك الكثير من المنغصات في سيناريو كان يُمكن أن يخرج بشكل أفضل.
بعدسة آيفون
نعود الآن إلى التجربة التي قرر سودربرج أن يخوضها في فيلمه، أن يكون الفيلم بالكامل مصورًا بكاميرا الموبايل. المتابع للتجارب السينمائية الشابة أو أفلام الطلبة يعرف أن كاميرا الموبايل أصبحت بديلًا سهلًا واقتصاديًا وهي جيدة أيضًا إلى حد كبير، هكذا صارت هناك مؤخرًا مهرجانات متخصصة فقط في سينما الموبايل، فهل قدم سودربرج جديدًا في تجربته؟
ربما سيلاحظ المشاهد بعد المشكلات في ألوان بعض المشاهد خاصة التي تعتمد على إضاءة ضعيفة، أو عدم ثبات الـ Focus في بعض اللقطات، لكن إجمالًا يصعب ملاحظة أن هذا الفيلم مصور بكاميرا الهاتف المحمول.
يعود هذا لسيطرة المخرج على كادراته ليُخرج أفضل صورة ممكنة بالإمكانيات البسيطة المتاحة، دون أن يقيده هذا في الوقت نفسه باستخدام أحجام لقطات قريبة أو متوسطة فقط، بل على العكس تنوعت أحجام اللقطات طبقًا لطبيعة المشهد، فلا نكاد نشعر أن الكاميرا تقيد من حرية المخرج أو أنها كاميرا محدودة الإمكانيات في النهاية.
كان من الممكن أن يقدم سودربيرج فيلمًا تجريبيًا أو يعتمد على شكل بصري مختلف يتماشى مع تجربة الهاتف المحمول، لكن اختياره لتقديم الفيلم بالشكل التقليدي يُثمن التجربة بشكل أكبر ويجعلها نقطة انطلاق للمزيد من الأفلام المشابهة لاحقًا.
في عام 1999 قدم فيلم ”The Blair Witch Project“ (مشروع الساحرة بلير) ثورة إذ كان الفيلم يستخدم تقنية تصوير متواضعة ”Hi-8 video“ لكنه حقق نجاحًا استثنائيًا جعله يدخل موسوعة جينيس آنذاك كأكبر فيلم يحقق إيرادات مقارنة بتكلفته، لكن لم تنجح أفلام أخرى في استثمار نجاح الفيلم بشكل قوي وتحقيق نجاح مشابه بتكلفة منخفضة، إلا بعد 10 سنوات مع فيلم ”Parnormal Activity“ (نشاط غير طبيعي) ومرة أخرى كان فيلم رعب. هكذا يبدو أن أفلام الرعب والدراما النفسية أرض خصبة للتجارب الجديدة.
الأداء المتفاوت
لدى سودربرج قدرة على تحريك الممثلين، تظهر في ترشح الكثير ممن عملوا معه لجوائز التمثيل، بل إن جوليا روبرتس لم تحصل طوال مسيرتها سوى على أوسكار واحدة عن فيلم ”Erin Brockovich“ الذي كان من إخراجه.
قدمت الممثلة كلير فوي أداءً جيدًا إلى حد كبير داخل أحداث الفيلم، الممثلة الشابة التي يعرفها المشاهدون من خلال مسلسل ”The Crown“ (التاج) حاولت أن تقدم الشخصية المضطربة والخائفة دون انفعالات غير مطلوبة أو ليست في محلها. في مقابلها يأتي جوشوا ليونارد، الذي كان أحد أبطال ”The Blair Witch Project“ ليقدم أداء تقليديًا شاهدناه من قبل لشخصية المريض النفسي الذي لا ينجح في ضبط انفعالاته.
هكذا نجد أن الفيلم ليس بأفضل حالٍ ممكن على المستوى الفني، لكنه كتجربة سينمائية في الغالب سيكون فتحًا، وربما نشاهد الكثير من الأعمال المصورة بكاميرات الهواتف المحمولة، خاصة وهذه التكنولوجيا تحقق قفزات على مستوى جودة الصورة في كل عام، وفي حال حدوث هذا سيكون لدى صناع الأفلام فرصة لتقديم أفلامهم بتكلفة منخفضة.