قبل أيام أنهي الفيلم الفلسطيني "التقارير حول ساره وسليم" للمخرج مؤيد عليان مشاركته في المسابقة الرسمية لمهرجان روتردام السينمائي الدولي (مسابقة نمر هيفوس)، بالتتويج بجائزتين رئيسيتين: جائزة لجنة التحكيم الخاصة عن سيناريو الفيلم وجائزة الجمهور لأفضل فيلم مدعوم من قبل صندوق هوبرت بالس، صندوق الدعم الخاص بالمهرجان والذي يحمل اسمه مؤسسه الشهير الراحل.
للأسف، وبدلاً من أن يتم الاحتفاء بالإنجاز الذي يفتتح بقوة الحضور العربي في المهرجانات الكبرى مع بداية العام الجديد، تحوّل صناع الفيلم بين عشية وضحاها متهمين عليهم إثبات برائتهم، بعدما رُفع في وجوههم السيف الذي صار مسلطاً على عنق كل من يجرؤ أن يختلف مع الثوابت أو يحاول طرح أسئلة مشروعة: التطبيع.
بيان صادر من حملة المقاطعة الأكاديمية والثقافية يتهم الفيلم بالتطبيع لمشاركة ممثلين إسرائيليين في فريق العمل، مطالباً صناع الفيلم بالاعتذار والتبرؤ من عملهم، والمهرجانات والقاعات العربية بمنعه من العرض، ليرد صناع الفيلم ببيان نفوا فيه مزاعم البيان، مشددين على تمويل فيلمهم بالكامل من أموال فلسطينية وأوروبية والتزام صنّاعه بالقضية. بيان جاء لأسباب توزيعية في رأي كاتب هذه السطور ولم يكن له داعٍ على المستوى الموضوعي، لأن مستوى الفيلم كفيل بالدفاع عن نفسه أمام كافة الاتهامات.
ولأنه من المؤسف حقاً أن يغدو مصير كل عملٍ جاد أن تدور آلاف الحوارات حوله دون السماح بالتعامل النقدي السليم معه، وتناول عناصره بالتحليل الذي تستحقه، فإن هذا المقال سيكون مخصصاً بالكامل لمحاولة قراءة الفيلم بجدية، بغض النظر عن أي اتهام أو جدل مُثار حوله.
استكمال مسيرة مغايرة
منذ فيلمه الطويل الأول "الحب والسرقة ومشاكل أخرى"، الذي عُرض قبل ثلاث سنوات في مهرجان برلين، وضع مؤيد عليان نفسه سريعاً ضمن أصحاب التجارب الشابة المغايرة في السينما الفلسطينية. المغايرة هنا وصف شكلي وموضوعي بامتياز، ففيلمه الأول الذي صوّره بالأسود / أبيض واقتبس فيه إيقاع وروح أفلام الموجة الفرنسية الجديدة في تحية واضحة لها، حمل داخله صوت الجيل الجديد من شباب فلسطين الداخل، ممثلين في بطل الحكاية موسى، الشاب الذي يسرق سيارة لبيعها، دون أن يعرف أن حظه العاثر جعل السيارة التي يختار سرقتها بالتحديد يوجد داخل صندوقها الجندي الإسرائيلي الذي اختطفته الكتائب الفلسطينية لتستخدمه كورقة ضغط للإفراج عن الأسرى.
موسى وجد نفسه متورطاً وسط صراع المقاومة الفلسطينية وأجهزة الأمن الإسرائيلية، بينما كان كل هدفه هو الحصول على مبلغ مالي يتمكن بواسطته أن يهرب خارج البلاد؛ لتصير قضية مهمة وحساسة مثل الأسرى الفلسطينيين والتفاوض حولهم خلفية لحكاية مثيرة ساخرة. حكاية أبرز ما فيها هو بطلها الذي يواجه رجال المقاومة فيصارحهم بأنه كان يتمنى أن يصير بطلاً أو شهيداً مثلهم، لكن قدرات البشر تتباين، ومن الخطأ افتراض أن على الجميع أن يعيش في حالة كفاح مستمر، فمن حق البعض أن يرغب فقط في العيش بسلام.
مؤيد عليان أوضح من فيلمه الأول إذن انحيازه لنوع الشخصيات المسكوت عنها التي لا يرغب أحد في سرد حكاياتهم، ربما لأنهم لا يحملون وهج البطولة أو خوفاً من التعرض لهجوم واتهامات صرنا نحفظها. أبطال عليان شباب غير مسيس لا يرغب إلا في حياة سعيدة، يتعامل مع الإسرائيليين بحكم ضرورات المجتمع الذي جعله القدر يولد داخله، دون انحياز سلبي أو إيجابي، لكن عدم الانحياز ليس خياراً داخل بلد محتل، لذا ففي كل مرة يجد البطل الأمور تنقلب رأساً على عقب بصورة تحمل الكثير من العبث، ويجد نفسه داخل صراع كان يعتقد أنه أصغر من دخوله. حدث ذلك لموسى في "الحب والسرقة وأشياء أخرى"، ثم وقع لسليم بشكل أكثر مأساوية في "التقارير حول سارة وسليم".
مقلوب سردي واستكمال موضوعي
على مستوى الشكل يمكن اعتبار الفيلم الجديد محاولة من المخرج لصناعة مقلوب فيلمه الأول، من الأبيض/أسود إلى الألوان، من الإيقاع الصاخب لآخر أكثر تمهلاً بما يكفي للتأمل، ومن قضية مهمة تصير مهزلة في خلفية مغامرة ساخرة إلى نزوة عابرة تتحول كارثة تفسد حياة أربعة أشخاص: زوجين فلسطينيين ومثلهما من المستوطنين.
الأمر يبدأ كما قلنا بنزوة، علاقة جنسية تشتعل شرارتها بين عامل توصيل المخبوزات الفلسطيني سليم وصاحبة المقهى الإسرائيلية سارة. علاقة كان من الممكن في أي مكان آخر أن تظل سراً، أو تصير إذا انكشفت فضيحة خيانة زوجية تتكرر آلاف المرات يومياً حول العالم. إلا أن ما يحدث في العالم كله شيء، وما يمكن أن يقع لسارة وسليم شيء آخر، فهما ببساطة ليسا مجرد رجل وامرأة يمثلان نفسيهما بضعفها وخطيئتها، لكنهما ـ برضاهما أو بدونه ـ عينات ممثلة للجذور، فلسطيني وإسرائيلية، ورائهما سبعين عاماً من الاحتلال والقهر والعنف، حولهما سياق كامل يرفض الفردانية ويتعامل مع الشخص بديانته قبل اسمه، وأمامهما مواجهة أكبر من قدرات أي انسان، يتورطان فيها ويورطان معهما زوجة سليم وزوج سارة.
هنا نقول أن "التقارير حول سارة وسليم" ورغم أسلوبه المناقض لفيلم عليان الأول، هو في جوهره استكمال بالغ الذكاء لنفس الفكرة التي قد تبدو للوهلة الأولى تطبيعية، فالأبطال يرغبون في الحياة بسلام وسعادة حتى لو تعايشوا مع المحتل (بل وطارحوه الغرام). إلا أن التحليل العميق لمسار الحكايتين يرى أنهما تقطعان باستحالة التطبيع على أرض الواقع. فحتى لو أراد سليم وسارة ـ دون وعي وبدافع الرغبة ـ تجاوز قيود الاحتلال والديانة، فإن كل ما يحيط بهما من أشخاص وأحداث وأفكار واحتمالات سيقودهما للتسليم بأن الرغبة قد تؤمّن لهما السلامة ليلة أو ليلتين، قبل أن يصيرا طرفي مواجهة أقل أخطارها الفضيحة.
حرفية النص السينمائي وتنفيذه
وإذا كان العمل الفني المتميز هو تكامل بين سؤالي "ماذا يقول الفيلم؟" و"كيف يقوله؟"، فإن قيمة فيلم مؤيد عليان لا يمكن أن ننظر لها بمعزل عن السيناريو الرائع الذي وضعه شقيقه رامي عليان. دراما شكسبيرية من الطراز الأول، تتصارع فيها رغبات أربع شخصيات لكل منهم بنائه النفسي ودوافعه المفهومة والمقنعة التي تتشابك مع الآخرين في تصاعد يزيد من صعوبة المحك في كل لحظة عن سابقتها. تصاعد ينطلق من تراكب أحداث لا يمكن ـ رغم غرابتها ـ اعتبارها صدفاً في بلد يفصل الاحتلال بين أوصاله بجدار عازل. عالم ينتمي تكوينه لعقود مضت، بما يجعلك تصدق أن يحتضن وقائعاً يصعب تصديقها في أي مكان آخر.
الخيار المدهش في السيناريو هو أن يكون سارة وسليم ـ محركا الأحداث اللذين يحمل الفيلم اسميهما ـ هما الطرفان الأضعف نفسياً، الأكثر سلبية ورغبة في الابتعاد عن المشكلات، في مقابل المبادرة والقوة التي تملكها الزوجة الفلسطينية (ميساء عبد الهادي بأداء ممتاز) والزوج الإسرائيلي. قوة ومبادرة كانت ضرورية لدفع حركة الدراما وإخراجها من سجن العام/ السياسي إلى ثقل دراما الشخصيات الإنسانية. دراما يتوجب على الزوجة فيها أن تتعايش مع اعتبار زوجها الخائن بطلاً مقاوماً بطولته هي خيانته لها، وعلى الزوج الضابط الناجح في الجيش الإسرائيلي أن ينكسر أمام ما فعلته زوجته بما فيه من إهانة مزدوجة لرجولته وقناعاته.
ضعف سارة وسليم كان ضرورياً، فلولاه ربما ما كانا ليستسلما للنزوة التي قلبت عالمهما الآمن. ضعف أجاد مؤيد عليان بمساعدة مدير التصوير سيباستيان بوك إبرازه بحضور أشبه بالتيه يسيطر على كليهما بمجرد اندلاع القضية. سارة وسليم صارا يتأملان العالم بعيني مصاب الحرب الملقى في خضم المعركة منتظراً موته في أي لحظة، برصاصة من عدو أو صديق، لأن الفرادنية بلا قيمة عندما يتعلق الأمر بالمعارك العُظمى.
المخرج يتأنى بثقل كبار فن الحكي، لا يكترث لتجاوز فيلمه الساعتين ببضع دقائق؛ فدراما بهذا التكثيف ـ الإنساني أولاً والسياسي ثانياً ـ يجب أن تأخذ كل لحظة فيها حقها من العرض، ويأخذ المشاهد وقتاً لهضم الأحداث واستيعاب العلاقات والمشاعر التي تتغير باستمرار مع تصاعد الأحداث. ليصير الإيقاع هو الآخر ضاغطاً على الشخصيات، ليس بمعنى الملل ولكن بالتعبير عن ثقل اللحظات.
"التقارير حول سارة وسليم" خطوة واسعة للأمام يأخذها مؤيد عليان في مشوار سينما فلسطينية جديدة وخاصة وناضجة. سينما قد لا يرضى عنها أباطرة البطولة وأصحاب المواقف المشتعلة، لكنها تحمل أسباب انتصارها داخلها؛ ففي النهاية لا يصح إلا الصحيح.
اقرأ للكاتب