خلال مناقشة تالية لعرض فيلم "غداء العيد" للمخرج لوسيان بورجيلي في الدورة الرابعة عشر لمهرجان دبي السينمائي (6-13 ديسمبر)، علّق أحد الأصدقاء اللبنانيين بأنه رغم جودة الفيلم إلا إنه من الصعب أن تختار لجنة تحكيم مسابقة المهر العربي أن تمنح الفيلم جائزة لأنه حسب وصفه "فيلم لبناني جداً" يصعب فهمه كاملاً لمن لا يعلم شكل المجتمع اللبناني وبعض سماته الديموغرافية والسياسية.
لكن لم تمر أيام على المناقشة حتى اختارت لجنة التحكيم أن تمنح جائزتها الخاصة لفيلم بورجيلي بين 18 فيلماً تنافست في المسابقة، وكأن الفوز بهذه الجائزة تحديداً هو رد طريف على الصديق، وتأكيد على أن تعمق "غذاء العيد" في الشأن المحلي، لم يأت على حساب قدرة الفيلم على التواصل مع المشاهد بغض النظر عن خلفيته، فهو فيلم "لبناني جداً" ولكنه أيضاً "إنساني جداً".
بفريق كامل من الممثلين الذين يقفون للمرة الأولى أمام كاميرا السينما يصنع بورجيلي فيلمه الروائي الأول، في خيار يلائم خلفيته كمسرحي نشط ومدرب ممثلين متمرس، ويتوافق قبلها مع طبيعة الفيلم الذي احتاج إلى وجوه طازجة، تُؤدي أدوارها على الشاشة انطلاقاً من أرضية واحدة فيسهل على الجمهور أن يصدق أنهم أفراد عائلة لبنانية مسيحية تجتمع على طاولة غذاء العيد، ليمنحنا التفاعل الحواري بينهم ثم ما يظهر لاحقاً من أزمة تفجر الخلاف بينهم، صورة بانورامية للشخصية اللبنانية.
لاحظ هنا أن الصورة ليست للمجتمع اللبناني وإنما للشخصية اللبنانية ذاتها؛ ففيلم لوسيان بورجيلي لا ينشغل بتصنيف شخوصه إلى انتماءات ومجموعات عقائدية أو أيديولوجية ـ رغم وجود شخصية أو اثنتان يمكن تطبيق الوصف عليهما ـ بل يهتم أكثر بالنفاذ إلى التعقد الإنساني الملازم للشخصية اللبنانية والذي يصل حد الازدواجية أحياناً.
أبطال "غداء العيد" على تنوعهم هم تمثيل لمجتمع غريب التكوين، فمن جهة هو حيّ تعددي يسمح بمساحة من الحريات الشخصية والسياسية أكبر من مثيلتها في أغلب الدول المحيطة، ومن جهة أخرى ترقد تحت الرماد فيه نار الطائفية والعنصرية، ويحكمه فساد لا ينتبه ممارسوه لأنهم يساهمون يومياً في إشعال فتيل هذه النار التي اكتوى البلد بها طويلاً.
حسناً، فيلم بورجيلي ليس عن السياسة وإن كانت حاضرة بقوة في خلفيته، ككل شيء لبناني في حقيقة الأمر. لكن ما يبرع فيه النص البارع (كتبه المخرج بنفسه) هو توريط مشاهده ببراعة في كل أزمة صغيرة تطرأ على العائلة خلال اجتماعها السنوي، وجعلنا نهتم حقاً بكل حدث درامي مهما كان حجمه، بداية من الورطة الكبرى باختفاء المبلغ المالي والتي يصير كل من في المنزل مشتبهاً في ارتكابه لها، وصولاً للمشكلات الأسرية الصغيرة ـ والدالة ـ بين الأم وابنها، الزوجة وزوجها، والأخت وزوج شقيقتها.
لن نتوسع في تفسير طبيعة هذه الوقائع حتى لا نؤثر على متعة مشاهدة الفيلم لمن يقرأ المقال، لكن يكفي القول أن أزمات أفراد العائلة هي أزماتنا جميعاً، وبيوتنا كلها تجمع الحالم في الهجرة باحثاً عن مستقبل أفضل، الرجعي الذي يُجبر زوجته على قراراته وهو يؤمن إنها خياراتها الحرة، المراهق المُحبَط والمُحبِط لأهله، ومن يقوم بتنازلات صغيرة من أجل كسب قوت أسرة قد لا يتفهم أبناؤها هذا التنازل. وفي الأعياد يجتمع كل هؤلاء لممارسة طقوس المحبة المتبادلة التي يفوق الادعاء فيها الصدق. صحيح أن أغلب هذه الاجتماعات يمر بسلام دون أن تشتعل الأمور فيه كما وقع في "غذاء العيد"، لكن المرور الآمن لا ينفي الصدام المحتمل، والمجتمع المكوّن من أُسر قابلة للانفجار هو بالتأكيد يعيش في انتظار انفجار مؤكد.
"غداء العيد" على هذا المستوى هو استبصار عميق في النفس البشرية عموماً واللبنانية خصوصاً، استبصار يمزج بين التحليل والتفهم واللوم، فهو يحلل أسباب الاحتقان القائم، يتفهم ضعف وتعقيد نفوس شخصياته مهما أظهروا من أقوال وأفعال تتجاوز أحياناً المقبول نحو حدود العنصرية والطائفية، ويلومهم لوم المحب بسبب قدرتهم على التعايش مع كل هذه القروح داخل نفوسهم وماضيهم وعلاقتهم حتى بأقرب الناس إليهم.
التشابه بين نوع المشكلات الأسرية ومثيلتها في كل مكان آخر يمنح الفيلم إنسانيته الأوسع من حدود الشأن اللبناني، وخيار لوسيان بورجيلي بتصوير مشاهده بكاميرا محمولة لا تتوقف عن الحركة ـ مع الممثلين الجدد كما ذكرنا ـ يساهم في هذا الشعور بالواقعية الخشنة، بأننا نجلس على طاولة الطعام مع هؤلاء الأشخاص، تحركنا الدوافع ذاتها، نفس السخط على الوضع الراهن بينما نتعايش معه وننخرط ـ بقصد أو بدون ـ في ممارساته التي لا ننفك نلومها إذا ما بدت من غيرنا.
وإذا كانت بعض أفلام المهر الطويل أتت للمسابقة من الباب الكبير، إما لمشاركتها في مهرجانات عالمية مثل "واجب" آن ماري جاسر و"غزّية" نبيل عيّوش، أو لأسماء صناعها ومسيرتهم الكبيرة مثل "همس الرمال" لناصر خمير و"بورن آوت" لنور الدين لخماري، فإن "غداء العيد" الذي دخل المهرجان فيلماً مغموراً صغير الإنتاج لمخرج يصنع فيلمه الأول، خرج منه بعد جائزة لجنة التحكيم فيلماً شهيراً سيتاح له بالتأكيد فرصاً عديدة للعرض في مهرجانات بالمنطقة العربية وخارجها.
في هذا الفارق بين وضع الفيلم قبل المهرجان وبعده تظهر قيمة اختيار لجنة تحكيم مارتينا جيديك الذي يستحق التحية، وقيمة مهرجان دبي نفسه، هذا الحدث السينمائي والثقافي الذي ساهم ـ ولا يزال ـ عبر عقد ونصف في منح فرص حقيقية بالتواجد لموهوبين كثيرين، ما كانوا لينالوا الاهتمام والسمعة ذاتها لو انطلق فيلمهم من أي مهرجان آخر في المنطقة العربية. الحقيقة التي يتعمد تجاهلها كل من يريد الترويج لمهرجان بلده، أو يحاول الإيحاء بأن تمسك الأفلام العربية بفرصة العرض في دبي حال توافرها أمر يرتبط فقط بالجوانب المادية. الافتراض الشائع الخاطئ الذي يأتي دائماً من أصوات لا تعي بآليات الإنتاج والتوزيع السينمائي، لكنها تصر على الإدلاء بدلوها في كل شئونه.
اقرأ أيضا لأحمد شوقي
"غزًية" و"بورن آوت".. تشابه الموضوع وتفاوت المستوى
الدراما التليفزيونية في مهرجان دبي السينمائي.. المياة تحت الجسور