ساعات قليلة تفصلنا عن إعلان جوائز الدورة الرابعة عشر من مهرجان دبي السينمائي الدولي، الجوائز الأهم سنوياً في عالم السينما العربية، ليس فقط لقيمتها المادية المعتبرة، ولكن لما تفتحه للفائزين من فرص لمشاركات وتسويق، حتى أن الفيلم القصير الفائز بجائزة المهر الذهبي، يؤهل مباشرة للقائمة الطويلة المتنافسة على أوسكار أحسن فيلم قصير.
في مسابقة المهر الطويل، المسابقة الرئيسية المخصصة للأفلام العربية الطويلة بمختلف أنواعها، شاهدنا أفلام المسابقة كاملة والمكونة من 18 فيلماً (11 روائي و7 غير روائي)، تتنافس على 6 جوائز لأحسن فيلم روائي وأحسن فيلم غير روائي وأحسن مخرج وممثل وممثلة بالإضافة إلى جائزة لجنة التحكيم الخاصة. تمنحها لجنة تحكيم ترأسها الممثلة الألمانية مارتينا جيديك ويشارك في عضويتها المخرج الفلسطيني رائد أنضوني والمخرج المصري أحمد عبد الله والمخرجة الفرنسية دومينيك كاربيرا والممثلة الإيرانية سهر دولتشاهي.
بغض النظر عن النتائج، فالمسابقة شهدت العديد من المفاجآت المحزنة والسارة، بين مخرجين كبار تعثروا في أفلامهم الجديد، وآخرون عادوا بأعمال على قدر الحدث، وأسماء جديد لمعت وقد ينتزع أحدهم جائزة غداً ليأخذ خطوة أكبر في مسيرته المهنية. وما بين المفرح والمحبط جاء الفيلمان المغربيان المشاركان في مسابقة المهر الطويل، واللذين سنتعرض لهما في هذا المقال.
إحباط نور الدين لخماري
على رأس المفاجآت المحزنة جاء فيلم "بورن آوت" للمخرج المغربي المخضرم نور الدين لخماري، واحد من أهم صناع السينما المغربية المعاصرين والذي قدم أفلاماً ممتازة مثل "كازانيجرا"، لكن عودته جائت باهتة بفيلم يعاني من ضعف واضح في النص جعل الأحداث تدور كثيراً دون أن تصل إلى نتيجة تذكر، ودون حتى أن نتفهم دوافع الشخصيات الرئيسية وأبعادها.
ثري شاب ينفصل عن زوجته بعد فترة من الانقطاع الجنسي، لينشغل بفكرة قطع مسافة معينة في زمن قياسي بسيارته الفارهة، بينما يسيطر على الزوجة هوس بلوحة تشكيلية. يجمع القدر بين الثري وبين ماسح أحذية طفل يريد شراء ساق صناعية لوالدته وطبيبة حديثة التخرج تقرر لسبب ما ـ مادي ربما ـ أن تحترف الدعارة مع كبار السياسيين.
الأزمة في "بورن آوت" أنك لا تفهم الأزمة الحقيقية لأي من الشخصيات (باستثناء الطفل ربما)؛ هناك مشكلة وعلينا أن نتعاطف معها دون أن نفهم أبعادها، ثم علينا أن نتفاعل مع تصعيدات درامية تقوم بالكامل على مصادفات ميلودرامية مستحيلة الحدوث، كأن تتشاجر الطبيبة الشابة مع سياسي شهير يمارس معها الجنس سراً ويهاجم علناً عمليات الإجهاض، ليتصادف أن تكون قد قامت في الصباح نفسه بإجهاض ابنة هذا السياسي، وكأن الدار البيضاء لا يوجد فيها سوى هذه المجموعة من البشر.
هذا بالمناسبة هو الشعور المسيطر على الفيلم بشكل عام؛ بالرغم من أن المدينة يفترض هنا أن لها حضور مادي ودرامي ـ كما كانت دوماً في أفلام لخماري ـ إلا إنها تصير فجأة مغلقة على شخصيات الفيلم، يقابلون بعضهم طيلة الوقت فقط بشكل مقبول حيناً وصعب الهضم أحياناً، دون أن تنتهي هذه المقابلات إلى نتيجة أو فكرة أو حتى شعور يمكن الإمساك به.
تناقض رغم التشابه
ما ساهم في إظهار بعض عيوب "بورن آوت" هي المقارنة المنطقية التي عقدها جمهور المهرجان بينه وبين "غزّية"، فيلم المخرج نبيل عيوش الجديد. فكلا الفيلمين يدور في مدينة الدار البيضاء، وكلاهما عمل متعدد الشخصيات التي تأتي من طبقات وبيئات اجتماعية متباينة، وكلا منهما يستخدم خطوطاً تبدأ متوازية حتى يجتمع مصيرها في النهاية، مع مزيد من التعقد في فيلم عيوش بإضافة خط درامي من الماضي يربط بصورة أو بأخرى بين الحكايات، ويقوم ـ وهو الأهم ـ بتأطيرها في طرح سؤال الهوية مبكراً لتكون كافة الأحداث التالية رداً عليه.
رغم التشابه الشكلي إلا أن "غزّية" جاء أفضل على كافة المستويات، فمن جهة لدى الفيلم موضوعاً واضحاً مؤسساً ـ كما قلنا ـ من البداية، ومن جهة أخرى تسير الدراما فيه بانضباط كامل، انضباط يمكن اعتباره درساً في كتابة سيناريو متعدد الحبكات، فلا يقع أبداً في فخ السيمترية والتنقل الإجباري بين الخطوط الذي عادة ما يفسد إيقاع هذا النوع من الأفلام، بل ينحاز صاحبه لسرد ما يهمه من كل حكاية من قصص الفيلم الأربع، حتى لو كان هذا يعني أن تأخذ حكاية ثلاثة أضعاف زمن الأخرى على الشاشة؛ ففي النهاية الهدف هو صياغة عمل مؤثر وليس التوازن بين الخطوط.
أما أهم ما في الفيلم فهو قدرة المخرج نبيل عيوش المشهودة على الاهتمام بكل لحظة في فيلمه، وكأن كل حدث هو الرئيسي وكل مشهد هو "الماستر سين". هذا مخرج كبير حقاً في قدرته على الإمساك بالفروق الدقيقة بين المشهد العابر والمشهد القادر على البقاء في الذاكرة.
لأن الفيلم يمتلك 5 حكايات على الأقل يرويها في ساعتين، فأكثر الخيارات ذكاءً كان هو التخلص من أي زوائد درامية، واختيار لحظات هي بالفعل الأهم في حياة كل شخصية، يمسك بها المخرج ويشغلها صوتاً وصورة ودراما، ليصيغ من خلالها لوحة لا يُمثل تقاطع المسارات في نهايتها أكثر نهاية ملائمة لعمل سيظل جيداً حتى لو لم يختر صاحبه أن ينهيه بهذه الصورة.
وإذا كنا في مقال سابق كُتب قبل المهرجان قد وضعنا فيلمي لخماري وعيّوش ضمن أكثر عشرة أفلام عربية مرتقبة في مهرجان دبي السينمائي الرابع عشر، فإن مشاهدة الفيلمين المتشابهين رغم تفاوت المستوى تجعل من الطبيعي أن نُبقي من "غزّية" عيّوش فقط في القائمة، بينما يبقى "بورن آوت" عثرة في مسيرة مخرج كبير ننتظر منه الأفضل في أعماله التالية.
اقرأ أيضا
القائمة الكاملة لجوائز "اختيار النقاد للأفلام".. The Shape of Water يتصدر بـ 14 ترشيحا