في مشهد من مسلسل ”الرجل العناب“ يجلس النقيب تيسير (شيكو) مع زوجته يشاهدان فيلم ”دكان شحاتة“، تحديدًا المشهد الذي يطلب فيه والد شحاتة من ابنه أن يحرك صورة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ليداري بها الشرخ الموجود على الحائط، وهنا يسأل تيسير متواضع الذكاء زوجته ”لو عرفتي المقصود باللقطة دي هاديكي 20 جنيه“ فتجيب الزوجة فورًا ”المقصود إن عبد الناصر هو اللي هيصلح مشاكل البلد“ فيخرج لها النقود.
ما العلاقة بين مشهد كوميدي في مسلسل مصري، وفيلم Mother! من تأليف وإخراج دارين آرونوفسكي؟
معضلة الرمز
تاريخ السينما يمتلئ بالأفلام التي تعتمد على الرمزية في طرحها، عادة ما تنقل كثافة الرموز وبراعة تقديمها الفيلم إلى مرتبة رفيعة في السينما المصرية لدينا ”الاختيار“ ليوسف شاهين، وأحيانًا تسمح الرموز نفسها بأكثر من قراءة للفيلم الواحد، وهو أمر يضمن خلود هذه الأفلام، إذ في كل مرة يمكن الخروج بفكرة جديدة وتأويل جديد لهذه الرموز، كما يحدث مثلًا مع الفيلم الألماني The Tin Drum.
لكن لا يعني هذا بالطبع أن تكون كل الأفلام التي تحتمل أكثر من قراءة أو تعتمد على الرموز والإسقاطات في طرحها أفلامًا عظيمة، وهنا تأتي المعضلة.
يرى البعض أن وجود الرمز، في المطلق، داخل الفيلم أمر كفيل برفع قيمة الفيلم وإحاطته بهالة من العمق، متناسين أن الرموز في أحيانٍ أخرى وعندما تكون أكثر وضوحًا مما ينبغي تصبح ضد الفيلم وليست في صالحه، نعود مرة أخرى إلى شاهين في آخر أفلامه ”هي فوضى“ بمشاركة خالد يوسف في الإخراج، والذي كانت الرمزية فيه شديدة التواضع.
هل هناك معايير واضحة لصناعة رمز جيد؟ ربما لا توجد خطوات محددة لتقديم الرمز السينمائي، لكن يمكن الاتفاق على أنه كلما كان الرمز لا يلوّح بيده ليعلن عن كونه رمزًا، بل يذوب في النسيج العام للفيلم، وكلما كان الرمز يحمل أكثر من معنى، كلما كانت فُرص أن يكون الفيلم جيدًا أكبر، والعكس صحيح.
الآن بعد هذه المقدمة الطويلة، يمكن الحديث عن فيلم !Mother، الذي يعتمد على الرموز في سرده منذ أول مشاهده وحتى آخرها، وهي في معظمها رموز دينية بالمناسبة خاضعة لرؤية المخرج والمؤلف.
أن تصل مبكرًا جدًا
لا يمكن الحديث عن قصة الفيلم ورموزه دون التطرق لكل تفاصيل السيناريو من بدايته وحتى نهايته.
تدور أحداث الفيلم عن الزوجة (جنيفير لورانس)، وسنشير لها لاحقًا بالأم، والتي تحيا في منزل منعزل مع زوجها الشاعر الذي يكبرها بعدة أعوام (هافيير باردِم) تعمل الزوجة على ترميم المنزل الذي نشاهده يحترق في لقطة عابرة في بداية الفيلم، تتعاقب الأحداث مع وصول ضيوف غير مرغوب فيهم إلى المنزل، ومحاولة الزوجة الحفاظ على بيتها وزوجها من هؤلاء المتطفلين، خاصة بعد أن تَحمَل وتصبح في انتظار الطفل الذي أرادته، لكن المواجهة بينها وبين عشاق الشاعر لم تمر بسلام.
يبدأ الفيلم بمتابعة الأم، التي لم تصبح أمًا بعد، في أجواء قلقِة ومثيرة للتوتر، يجيد آرونوفسكي صناعتها، تجعلنا هذه الأجواء وسير الأحداث الغريب المرتبط بالمكان الواحد مشدودين طيلة النصف الأول من الفيلم في انتظار المزيد، وفي انتظار كشف الرابط الخفي للعلاقات التي تربط بين كل شخصية والأخرى، إلى أن ينكشف الأمر في منتصف الفيلم تقريبًا.
بعد أن يصل الضيف الأول وزوجته (إد هارِس وميشيل فايفر) يلحق بهما ابناهما، ويقتل أحد هذين الابنين الآخر مخلفًا علامتين مهمتين، الأولى في صورة دماء تظل ملتصقة بأرضية المنزل، والأخرى في صورة جرح واضح في جبهة الأخ القاتل.
الآن لدينا أب وأم وابنان يقتل أحدهما الآخر، ألا يذكرنا هذا بشيء؟ بالطبع نحن أمام تجسيد رمزي لآدم وحواء وهابيل وقابيل (قايين)، في حين يظهر أن الزوجة هي الأرض، والزوج هو الإله، كل هذا في تصوير رمزي قريب من تجسيد الأساطير.
طبقًا للنص التوراتي لقصة قايين وهابيل، فإن الأرض فتحت فاها لتقبل دم هابيل، وكان لدى قايين علامة حتى لا يقتله أي شخص آخر.
هذا الكشف الذي يمكن الوصول إليه بسهولة، كان في أول الأمر عاملًا آخر للجذب، إذ أصبحت الاحتمالات مفتوحة لدى المشاهد للإجابة عن سؤال ”إلى أين سيأخذنا الفيلم؟“.
كل ما يُمكن قوله
قرر دارين آرونوفسكي استكمال قصة الأرض طبقًا للنصوص الدينية حتى نهايتها.
إذا عدنا للبداية، سنجد الضيف الأول لديه جرح غائر في جنبه، في إشارة إلى حواء التي أخذت من ضلع آدم طبقًا للتوراة أيضًا، ثم يدخل هذا الضيف وزوجته إلى المكان المحرم عليهما حيث يمارس الشاعر كتابته، وهناك يكسران قطعة من الكريستال مما يثير غضب الشاعر إلى أقصى حد، وهي إشارة إلى الأكل من ثمار الشجرة المحرّمة، ثم أتى الولدين كما ذكرنا سابقًا.
لاحقًا يمتلئ البيت بالمعزّين الذين يرحب بهم الزوج الشاعر، وترفضهم الزوجة/الأم، حاولت السيطرة على الوضع في البداية، لكن أعصابها انهارت عندما كسر بعض هؤلاء الضيوف الحوض مما دفع بالمياه من المواسير، نعم هذا هو الطوفان، وبعد طرد كل الضيوف من المنزل نشاهد لقطة عامة من زاوية مرتفعة للمنزل من الخارج، إذ تتحول الحديقة الخارجية إلى اللون الأخضر مرة أخرى، وهكذا ينتهي النصف الأول ليبدأ النصف الثاني.
يركز النصف الثاني على حمل الزوجة التي ستصبح أمًا أخيرًا، في الوقت نفسه الذي يُكمل فيه الشاعر قصيدته، وينهمر عليه معجبوه من كل الأنحاء بهوسٍ شديد يصل إلى حد العبادة، هكذا تستمر رموز النصف الثاني من الفيلم في التكشف طبقًا للمتوقع، فالابن يولد لكن الشاعر لم يكن لديه مشكلة في أن يمنح ابنه لمهاويسه، ليأكلوه! في إشارة لبعض المعتقدات المسيحية ولكن طبقًا لرؤية الفيلم بالطبع.
لكن هؤلاء البشر الذين دخلوا إلى البيت الذي صرنا نعلم أنه يمثل الأرض، خاصة مع تأكيد المخرج بصريًا على هذه الفكرة بطريقة واضحة، هؤلاء البشر لم يعيشوا في سلام بل عاثوا في البيت فسادًا وقاتلوا بعضهم، وخرج كل منهم بمذهب خاص به، تمامًا مثلما يحدث على أرض الواقع، الحروب والنزاعات المذهبية، وحتى السياسية.
هكذا تستمر حالة الفوضى تلك على الشاشة، إلى أن تقرر الأرض أو الأم المسالمة أخيرًا الخروج عن هدوئها لتحرق المنزل بالكامل، ليخرج الشاعر دون إصابة ويقرر البدء من جديد مع أرض أخرى.
في ضوء كل هذا يمكن العودة إلى فكرة الرمز والمرموز إليه التي تحدثنا عنها في بداية المقال.
الفيلم عن علاقة الأرض بالإله الذي لا يهتم بها ويولي اهتمامًا أكبر بالبشر الذين لا يحترمون الأرض، ولا يترك لنا آرونوفسكي مجالًا لتصديق فيلمه في إطار واقعي يقبل التأويل، بل وضعنا أمام التأويل مباشرة، وهذا يتضح في مشاهد الزوج الذي لم يتأثر بضرر رغم الحريق، واللقطات السريعة التي كنا نشاهدها لقلب ينبض لكنه يصاب بالضعف رويدًا رويدًا مع تصاعد الأحداث، وكانت بداية ظهوره عندما لمست الأم جدران منزلها، في إشارة واضحة أخرى للربط بينها وبين المنزل بشكل يمكن تقبله في إطار الرمز وليس في إطار الواقع.
ربما رأى البعض أن في الفيلم الكثير من العبقرية لأنه استطاع تصوير القصص المذكورة في هذا القالب الرمزي، وإن كنا نرى أن كشف الأمر بهذا الوضوح جعل الفيلم منتهيًا إلى حد كبير منذ منتصفه، ومحاولة المخرج استكمال الفكرة حتى نهايتها طبقًا لرؤيته جعل النصف الثاني أقل على مستوى الحدث، وإن حمل الكثير من الزخم، ولكن الأمر أشبه بمشاهدة فيلم نعرف كل تفاصيله مسبقًا، ويأتي ما تعرفه بالفعل في مشاهد طويلة جدًا مما يخلق حالة من الملل في بعض المشاهد.
نعود إلى المشهد المذكور في بداية المقال، انكشاف الرمز بهذا الوضوح الذي لا يحتمل أي لبس بالتأكيد أفقد الفيلم مذاقًا أفضل كان ليصبح عليه لو كانت هذه الرموز تحمل قدرًا أكبر من التأويلات، هذا مع الأخذ في الاعتبار وجود تفسيرات أخرى لقصة الفيلم وإن كانت هذه التفسيرات يصعب إسقاطها على الفيلم بأكلمه في ظل صراخ هذه الفكرة الواضحة عن الأم الأرض طيلة مدة الفيلم، وحتى خارج الفيلم من خلال بوستراته.
الأم الحاضرة دائمًا
المتابع لأفلام دارين آرونوفسكي سيشاهد كم يعطي الأم دائمًا قيمة كبيرة، وتظهر أمهات آرونوفسكي عادة بملمحين أساسين، الأول هو المعاناة الشديدة، والثاني هو عشقهن واهتمامهن بأبنائهن رغم هذه المعاناة.
في فيلمه الثاني Requiem for a Dream كان هناك خطًا دراميًا كاملًا يخص الأم (إلين بورستين) بينما لم تكن حياتها سعيدة على الإطلاق وتعترف بمعاناتها من الوحدة حتى إنها تحيا من أجل هدف واحد وهو أن تظهر على شاشة التلفزيون، لكن لا ينسى أن يعرفنا في بداية الفيلم كم تحب ابنها في مشهد رائع.
وفي فيلمه الأهم والأفضل Black Swan نرى الرعاية الكبيرة التي تحيط بها الأم (باربرا هيرشي) ابنتها راقصة الباليه، وبالرغم من أن الرعاية في الفيلم كانت خانقة، إلا أنها كانت بدافع أن الأم تركت كل شيء وتفرغت لرعاية ابنتها لتصبح راقصة باليه محترفة، وهنا كان اهتمامها بابنتها هو نفسه سبب معاناتها، وعلى الرغم من أنه من الصعب الإعجاب بهذه الأم لكنها حققت هدف آرونوفسكي.
في مقابل Black Swan يأتي فيلم Noah كأضعف أفلام المخرج الأمريكي، وإن كان في هذا الفيلم الذي يسبق فيلم ”أم!“ مباشرة، قدم إرهاصة واضحة لفكرة فيلمه الأحدث، في صورتين.
الأولى تتمثل في إيما واتسون التي قدمت دور زوجة أحد أبناء نوح، تصعد إلى الفُلك وهي حامل، ليكون هذا الابن المنتظر هو أول إنسان جديد يولد بعد الطوفان، وهي أم تعاني من قبل أن تلد كما في ”أم!“، لكن معانتها ليست مع الطوفان بل مع نوح نفسه الذي يرغب في التخلص من هذا الطفل، وهنا يأتي التمهيد الثاني لفيلم !Mother.
في Noah يقدم آرونوفسكي رؤيته في جعل شخصية نوح ترى أن البشر هم سبب دمار الأرض وبناء عليه يقرر منع أبنائه من الإنجاب لاستمرار الأرض نفسها حتى لو دون بشر، لكنه لا يفعل هذا في النهاية.
التوتر بصمة دارين آرونوفسكي
مع سيطرة فكرة الرموز على المشاهد بعد الخروج من الفيلم، يتضاءل الاهتمام بالكثير من العناصر الأخرى، أهمها بالطبع وضوح بصمة دارين آرونوفسكي على الفيلم، فحتى لو اختلفنا على الفكرة وطريقة السرد يصعب عدم الاستمتاع بالرؤية الإخراجية.
بداية من طريقة التصوير التي جعل فيها الكاميرا دائمًا ملتصقة بشخصية الأم في لقطات قريبة أو متوسطة فقط، هي محور الحدث دائمًا ونتابع ما يحدث من وجهة نظرها دائمًا، لكن هذه الطريقة من التصوير تخلق حالة حقيقية من التوتر منذ بداية العمل، تزداد مع كل مشهد، وهذا التوتر يجيده دائمًا آرونوفسكي، وسنقف هنا عند مشهد بعينه، مشهد وصول الزوجة (ميشيل فايفر) إلى المنزل.
في هذا المشهد تقف الأم في المطبخ تطبخ باستخدام المقلاة، وتظهر عليها علامات التوتر من حضور الضيفة غير المتوقعة، تدخل هذه الضيفة راغبة في المساعدة لتمسك المقلاة وهي ساخنة فتحرق يدها وتلقي بالمقلاة إلى الأرض، وتهرع الأم لمساعدتها، مشهد بسيط وتقليدي جدًا، لكن آرنوفسكي، جعل من هذا المشهد البسيط، من خلال التركيز على ردود الأفعال، والتمهيد الدائم لوقوع حدث جلل، وطريقة التصوير الخانقة، وكأن هناك كارثة قد حدثت.
وهنا نلتفت إلى ما قدمه في ما يخص الممثلين الذي أخرج من كل منهم ما يريده، فجينيفر لورانس تقف دائمًا في موضع رد الفعل، وتظهر طيبة حتى السذاجة، وهذا لا يظهر من حوارها وحده، بل من مجرد تعبيرات وجهها على ما يحدث في منزلها، بينما المشهد الأفضل لهافيير بارديم، كان بعد أن انتهى من قصيدته، واحد من أروع المشاهد التي توضح شعور أي مبدع عند الانتهاء من قطعته الفنية، بجانب مشهده قرب النهاية وهو يحاول التصالح مع الأم ويخبرها عن حاجته لها.
كل هذا في كفة، ومشاهد الصراعات التي خاضتها البشرية في كفة أخرى، حوالي ثلث الساعة في مشاهد متلاحقة تقدم أشكالًا مصغرة لكل مآسي البشر بشكل رمزي، وباستخدام قطعات مونتاج حادة، وفي كل لقطة نجد صدمة جديدة، وهذا التكثيف ليس غريبًا على آرونوفسكي الذي قدم في ”مرثية للحلم“ تتابعات نهاية في ثلاثة خطوط متوازية بشكل صادم وقاسي ورائع في الوقت نفسه، لكنه يجعل من إعادة مشاهدة الفيلم أمرًا في غاية الصعوبة، وهو الأمر نفسه بالنسبة لـ Mother!.
فيلم !Mother فيلم مهم وتجربة من التي يصعب تقديم مثلها، لكنه في الوقت نفسه يعيد رواية قصة نعرفها بالفعل ويصر على روايتها كما نعرفها دون تدخلات كبيرة حتى نهايتها تقريبًا، وهذا ما قلل قيمة الفيلم ومتعة المشاهدة.
اقرأ أيضًا:
المخرج مارتن سكورسيزي في أحدث مقالاته: هذا سبب الهجوم على فيلم !Mother واسم Rotten Tomatoes مهين
خاص- رسالة فينسيا (5).. جنيفر لورنس تمثل الطبيعة "الأم" وخافيير بارديم يقتلع قلبها في !Mother