"الكنز".. الكباريه السينمائي وحكايات الجدات

تاريخ النشر: الثلاثاء، 5 سبتمبر، 2017 | آخر تحديث:
فيلم الكنز

تجلس جدتك لتروي لك حكاية الحطّاب الذي عرضت عليه الجنّيات ثلاثة فؤوس يختار بينها فاختار الخشبية دون سبب منطقي لاختياره، اللهم إلا استكمال الحدوتة الملحقة بوعظة عن القناعة. لكنك لا تعترض على الاختيار ولا تجادل الجدة في إنك لو كنت مكانه لاخترت الفأس الذهبية دون تردد، ففي النهاية هو اتفاق مبرم بينك وبينها: أن تأخذك إلى عوالم الحكي السحرية، وأن تتجاوز في المقابل عن بعض المنطق والإحكام هنا أو هناك.

إذا كنت ممن يوافقون على الاتفاق السابق ويستمتعون به ففي الأغلب ستجد الجزء الأول من فيلم "الكنز.. الحقيقة والخيال" للمخرج شريف عرفة والمؤلف عبد الرحيم كمال ممتعاً وإن وضعت يدك على بعض هفواته، أما لو كنت تفضل المعادلات الرياضية المنطقية في الحكي، فمن الصعب أن تجد ذائقتك ضالتها في فيلم يحكمه من اللحظة الأولى منطق حكايات الجدات.

كان ياما كان
لاحظ أننا لا نتحدث هنا عن حكايات ألف ليلة وليلة، النص المعقد القائم بالأساس على أعلى ذروة من ذُرى التعلق بالحافة Cliff Hanging حسب مصطلحات كتابة السيناريو الأمريكية. فإذا كان كاتب المسلسل الدرامي يسعى لإنهاء كل حلقة بحدث مدهش أو سؤال مثير يضمن تعليق المشاهد على الحافة بما يدفعه للعودة ومشاهدة الحلقة التالية، فإن محك شهرزاد ببساطة كان حياتها، إن لم يرغب الملك في الرجوع لأمر بقتلها.
ناهيك عن ارتباط ألف ليلة وليلة، والسير الشعبية بشكل عام، بفكرة العلب الصينية أو الماتريوشكا (عرائس روسية تضم كل عروس داخلها نسخة أصغر منها). الحكاية تولد حكايات تتفرع بدورها لحكايات أخرى، لتتكاثر عشرات الفروع من الأصل مشكلّة عالم كامل هدفه الرئيسي ألا يتوقف الحكي.

حكايات الجدات في المقابل أبسط بكثير: بطل ومأزق يولد اختيار ومغامرة تنتهي بحكمة أو شبه حكمة. والهدف هو متعة لا ترهق الأذهان كثيراً. متعة لا يقف فيها المستمع موقف الند من السارد، وإنما تتلاقى رغبة الطرفين في قضاء وقت طيب. تماماً كما تلاقت الرغبتان بين صناع فيلم "الكنز" ونسبة لا بأس بها من مشاهديه.

ما هو الكنز الذي يخبر بشر باشا (محمد سعد) ابنه الشاب (أحمد حاتم) عنه ليبدأ القراءة والمشاهدة ليتابع الحكايات الثلاث في الماضي؟ في الحقيقة إن ماهية الكنز لا تهم كثيراً، على الأقل في حدود ما يؤسسه الجزء الأول من شكل سردي لا يمثل فيه هذا الكنز إلا مدخلاً للماضي، سبباً لأن يفتح الشاب وثائق والده ويطالعها كي يُبحر في الحكايات الفرعونية والمملوكية والفاروقية. مجرد باب يُفتح على الحكي على طريقة جملة "كان ياما كان" التي تتصدر دائماً بدايات الحدوتة.

عرض درامي ممتع

قد يختلف المنهج السابق في الجزء الثاني وتتمحور الأمور أكثر حول هذا الكنز المزعوم، لكن هذا ليس موضوعنا، وليس من المفترض أصلاً أن نخرج من فيلم مدته تقترب من ثلاث ساعات، يدخله الجمهور بتذكرة كاملة، ثم نجد من يخبرنا أن علينا ألا نحكم عليه لأن هناك جزء ثانٍ. هذا فيلم مكتمل مغلق مستقل بذاته حتى لو كان له تتمة، ومن حسن الحظ أن الجزء الذي شاهدناه يمتلك من أسباب الإمتاع ما يكفي.
يظهر هنا السؤال المنطقي: إذا ما خلصنا الفيلم من قيود الحكي المنطقي الدقيق، وقلنا أن حبكته الرئيسية هي مجرد مدخل غير مُلزم، فماذا يبقى للمشاهدة كي نصفه بالمتعة؟ وألا يعني هذا أن أي فيلم ضعيف يمكن أن ينتحل الصفات نفسها لتبرير ضعفه؟

الفارق يكمن في طبيعة ما يقدمه فيلم شريف عرفة لمشاهده. "الكنز" هو عرض مذهل Spectacle، فكرته الأساسية تقوم على حشد كل شيء: مجموعة من كبار النجوم يجتمعون على الشاشة للمرة الأولى، دراما تنتقل بين عدة حكايات وأزمان بما يرتبط بذلك من ديكورات وملابس وبذخ إنتاجي، توليفة من الموسيقى والغناء متنوع الألوان، بل وبعض الاستعراضات والمونولوجات والرقصات الكوريوغرافية، وكأن المشاهد يلج "كباريه سينمائي"، يشهد فيه فقرات متتالية مبهرة يستحيل أن يراها تحت أي سياق آخر. والدهشة بالمناسبة هي إحدى مقومات السينما وأهدافها، بغض النظر عن مصدرها.

هذا التوجه يمكن التدليل عليه بالتباين بين النبرة المختارة لكل حكاية من حكايات الماضي الثلاث. فإن كانت كلها حكايات تدور حول العلاقة بين السلطة والحب، فلا يجمعها حتى نهاية الجزء الأول تفسير واحد لهذه العلاقة، ولا يجمعها ـ وهو الأهم ـ نبرة درامية واحدة تنفي فكرة الكباريه السينمائي بتعدد فقراته لحساب الهارمونية الفيلمية. بل يتأرجح السرج بين الكوميديا الحركية (على طريقة جاكي تشان) في خط علي الزيبق، الفيلم نوار Film-Noir في خط رئيس القلم السياسي، والميلودراما الرومانسية في خط حتشبسوت. إذا أضفنا لذلك الشكل التشويقي للخط التأسيسي (السبعينيات)، فستصلنا الصورة كاملة: المخرج أراد أن يقدم للمشاهدين كل الأشكال الفيلمية المتاحة، داخل سياق يبرر وجود عناصر هذه الوجبة الفنية جنباً إلى جنب.

استقطاب مفهوم الأسباب

الشكل المذكور للسرد يجعلنا نتفهم الجانب الأكبر من الآراء التي كُتبت عن الفيلم، سواء في مقالات منشورة أو في انطباعات على مواقع التواصل الاجتماعي، والتي شهدت استقطاباً واضحاً بين جانب يرى الفيلم إنجازاً سينمائياً دفع صحفية للمبالغة بوصفه "السينما كما يجب أن تكون"، وجانب آخر لم يجد فيما شاهده فيلماً من الأساس، جيداً كان أم سيئ. استقطاب غير معتاد حتى في عصر توزيع "الشابوهات" على صناع مسلسلات الدرجة الثانية.

بإمكاننا أن نتفهم أسباب هذا التباين في المواقف، انطلاقاً مما ذكرناه عن أن الاستمتاع بفيلم "الكنز" يقوم بالأساس على اتفاق يُبرم بين طرفين، بموجبه يقبل طرف أن يشاهد محمد سعد يؤدي دوراً جاداً (بنجاح كبير باستثناء لحظات فلت فيها المُشخِص الحركي من محبسه)، محمد رمضان يمثل في فيلم لا يتمحور حوله وحول تيماته المعتادة، حكاية تدور في زمن الفراعنة شبه الغائب عن السينما المصرية، وباقي عناصر خلطة الفيلم التي يمكن القطع بأنها غير مسبوقة.

في مقابل هذا يتنازل المشاهد عن البناء الكلاسيكي وتماسك الحبكة الرئيسية وهيمنتها على كافة خطوط الفيلم، بل وعن كثير من الملاحظات المنطقية التي قد تشغل بالك بها وتستمر في عدها حتى النهاية فتخرج ساخطاً، أو تتجاوزها وتنخرط في عرض ممتع يتراكم مشهداً بعد الآخر. على سبيل المثال لا يوجد طفل يُمكن أن يُسمى بتحتمس الثاني أو الثالث في مهده، فالرقم الملكي يُمنح بعد التتويج لا قبله، ومقدم الدرك في سيرة الزيبق كان اسمه سنقر الكلبي لا صلاح الكلبي، واسم صلاح لم يستخدم بمفرده غير مقترناً بمضاف إليه (صلاح الدين) إلا في مرحلة متأخرة تاريخياً. يمكن أن نستمر هكذا طويلاً، وإن كان ذلك قصوراً واضحاً في فهم طبيعة العمل الذي نتعرض له.

لدى كل مشاهد حرية الاختيار بين الطريقين، إما أن يتعامل بالميزان والقياس فيدخل معركة بلا طائل مع فيلم لم يدع لحظة التأريخ أو الدقة، أو أن يسلم نفسه لحكايات الجدّة فيجد فيها كثير من الطرافة والعلاقات الشيقة والجمل الحوارية الذكية (باستثناء الخط الفرعوني الذي عانى من مباشرة حوارية ملحوظة). إما أن يقرر الحكم سلباً لأن شخصيات الماضي تتحدث بمصطلحات الحاضر، أو أن يقبل قواعد اللعبة ويعترف بأن الإيفيه المضحك بالعامية المعاصرة لا يمكن تعويضه بآخر من عصر الفراعنة. بالمناسبة الفراعنة لم يتحدثوا العربية أساساً، فلماذا نتقبل حديثهم بالفصحى ونعترض عندما يتكلمون العامية؟

وفي النهاية

"الكنز.. الحقيقة والخيال" في جزئه الأول جاء عرضاً سينمائياً مبهراً، مليئ بالفقرات الجيدة وأسباب التسلية المصاغة في قالب درامي طموح يحتويها ويمزجها لتتمحور حول فكرة صراع الحب والسلطة. طموحه لا يكفي لجعله فيلماً عظيماً، لكن محتواه يؤهله بجدارة لأن يكون عملاً ممتعاً يستحق المشاهدة، لمن يبحث عن المتعة.


اقرأ أيضا

"الخلية".. فن لوحات الصالون

"الكنز" الذي أهدره شريف عرفة