"لقد أنهيتُ مسرحيتي".. بهذه الكلمات تنطلق أحداث فيلم Atonement، للمخرج الإنجليزي جو رايت، المأخوذ عن رواية تحمل نفس الاسم صدرت عام 2001، للكاتب إيان ماكوين، وإنتاج عام 2007.
لكنها ليست مجرد كلمات تنطلق على لسان طفلة عمرها 13 عامًا، يصاحبها في الخلفية صوت آلة كاتبة تنم عن التحكم في مصير أبطال الحكاية، بل هي مفتاح الفيلم الذي يعد الخيال فيه عامل أساسي محرك للأحداث. فالخيال الواسع الذي تتمتع به الطفلة "بريوني تاليس" يجعلها تقترف ذنب كبير في حق شقيقتها وحبيبها، يفرق بينهما إلى الآبد، ويتسبب في موتهما، وبالخيال أيضًا تكفر عن هذه الغلطة، إذ تكتب رواية تحكي فيها ما حدث لكن تقرر منحهما نهاية سعيدة.
ومع ذلك، ليس الخيال وحده هو المتسبب في التعاسة التي لحقت بشقيقتها "سيسليا" وحبيبها الفقير "روبي"، وإنما هناك عدد من الأسباب يتعرض له الفيلم الدرامي؛ أولها الأحكام المسبقة وقصور الرؤية التي يوضحها لنا المخرج معتمدًا على إعادة عرض المشاهد من خلال وجهات نظر مختلفة. فنحن أمام مثلث الحب، لأن "بريوني" تحمل بداخلها مشاعر لحبيب شقيقتها، الذي يعمل لديهما، لكنه منجذب لـ"سيسليا" الشقيقة الكبرى. وفي الوقت الذي يتقرب فيه الحبيبان من بعضهما بعد جفاء دام لسنوات، ترى الطفلة التي على أعتاب مرحلة المراهقة، موقف يجمعهما في حديقة المنزل أمام النافورة، تخطيء في تفسيره. ثم بعد ذلك، تقرأ خطاب لم يكن من المفترض أن يُرسل إلى شقيقتها لتضمنه عبارات جنسية، فتحكم على "روبي" بأنه مهووس جنسيًا وتشعر بالخطر من ناحيته. حتى تراهما في وضع حميمي داخل مكتبة المنزل، كل ذلك يجعلها في النهاية تورطه في تهمة اغتصاب قريبتها التي تقيم لديهما -رغم عدم تأكدها من أنه الفاعل- وتتسبب في دخوله إلى السجن، ومن ثم انضمامه إلى الجيش للمشاركة في الحرب العالمية الثانية.
ولكن ماذا عن عائلتها التي أيدت شهادتها رغم معرفتهم بخيالها الخصب؟ هذا السؤال يأخذنا إلى المستوى الثاني الذي يمكن من خلاله النظر إلى فيلم Atonement، وهو البيئة التي نشأت فيها الشخصيات وتأثير الفروق الطبقية على أحكامهم.
الفيلم يقدم 3 طبقات يتكون منها المجتمع الإنجليزي آنذاك؛ الطبقة الفقيرة المتمثلة في "روبي" الشاب الطموح الذي يرغب في الالتحاق بكلية الطب ووالدته التي تعمل في المنزل لخدمة العائلة، والطبقة المتوسطة ميسورة الحال وهي عائلة "تاليس" التي تبدو ثرية ولكن أثمن ما يملكونه هو تلك الزهرية التي عندما يتحطم جزء منها، تهلع "سيسيليا" إلى التقاطه من النافورة، وهو بالمناسبة يمثل بداية تفكك العائلة لأنه الحدث الأول في سلسلة التفسيرات الخاطئة التي بنت عليها "بريوني" موقفها تجاه الشاب الفقير. ثم تأتي الطبقة الثرية المتجسدة في صديق شقيقهم، الملياردير مالك مصنع الشوكولاتة "بول مارشيل"، الذي على الرغم من أنه المرتكب الحقيقي لجريمة الاغتصاب إلا أنه فوق مستوى الشبهات. فعائلة "تاليس" تغضب عند رؤية الخطاب الذي يُرسله "روبي" إلى ابنتهما، وتحكم عليه بأنه المجرم ليس فقط بسبب شهادة "بريوني" ولكن لأنه يفكر بابنتهما كحبيبة.
ومع اندلاع الحرب، يكشف لنا رايت عن أوضاع الطبقات الثلاث وكيف تغير شكل المجتمع وازداد فسادًا. فقد ذهب "روبي" إلى فرنسا وكان أحد الجنود المشاركين في معركة دونكيرك، أما "سيسليا" فبعد هجرها لمنزل العائلة احتجاجًا على ما فعلوه بحبيبها، أصبحت ممرضة، ولأن "بريوني" ترغب في التكفير عن ذنبها، تتطوع هي الأخرى كممرضة وتقرر عدم استكمال دراستها. فيما ازداد صاحب مصنع الشوكولاتة المغتصب ثراءً، وأصبح مادة للتقارير الإخبارية. فقد سُحقت الطبقة الفقيرة بمساعدة الطبقة المتوسطة التي ساءت أحوالها هي أيضًا، فيما لمع نجم الأغنياء وأصبحوا وحدهم المستفيدين من الحرب.
من بين أهم مشاهد الفيلم؛ مشهد معركة دونكيرك، الذي يعد ابداعًا بصريًا ويمثل أيضًا محطة مهمة في مصير "روبي". فالمشهد يستعرض حالة الجنود في الحرب ويمنحك صورة تفصيلية عما حدث في فترة الهزيمة والإجلاء، تعادل في قوتها فيلم كامل مخصص لهذه المعركة. ولكنه أيضًا اختيار ذكي لأن ما حدث في حياة "روبي" الأولى، عندما كان على أعتاب الفوز بكل شيء؛ حب "سيسليا" والالتحاق بكلية الطب، وتدمر بعد الشهادة الكاذبة، يشبه ما حدث له في النهاية، عندما مات، وهو على أعتاب النجاة، في أخر يوم لترحيل قوات الحلفاء.
الصورة السينمائية وما تتضمنه من تكوينات تحمل الكثير من الدلالات في الفيلم، منها اختيار ظهور الثلاث ممثلات اللاتي قدمن شخصية "بريوني"، في مراحل عمرية مختلفة، بشعر قصير، وكأن عمرها توقف عند اللحظة التي كذبت فيها، وستظل طوال عمرها معذبة الضمير. كما أن حرصها المستمر على غسل يديها جيدًا بالماء، يدل على رغبتها في التطهر من ذنبها. إلى جانب أن اختيار الكادر الضيق على وجهها في لقطات كثيرة منذ بدية الفيلم، يشير إلى أنها محور الأحداث والمتحكمة في جميع ما ورد بالقصة من حقيقة وخيال.
في المجمل، فيلم Atonement يتمكن من أسرك حتى الدقائق الأخيرة منه، مقدمًا قصة حب مأسوية بطريقة تبتعد تمامًا عن التقليدية، يطرح من خلالها عدد من التساؤلات حول معنى التسامح والغفران ومدى إمكانية تقبله على مستوى الفرد والمجتمع.
اقرأ أيضًا:
"نحبك هادي".. عندما تنتقل الثورة إلى حياتنا
لا تفوتك هذه القائمة- أفضل 100 فيلم كوميدي في تاريخ السينما.. من بينهم أفلام وودي آلن