بالرغم من الإنتاج المتزايد الذي تشهده السينما العربية ـ خاصة الفني منها ـ لا يزال العام يغلب الخاص في أغلبية الأفلام العربية حتى لحظتنا هذه. لا يزال السياسي أعلى صوتاً من الإنساني، والقضية أثقل وزناً من أصحابها. عندما حاورت المخرج الكبير يسري نصر الله، رئيس لجنة تحكيم مسابقة صناع سينما الحاضر في مهرجان لوكارنو السينمائي السبعين، عن فيلمه الشهير "باب الشمس"، قال عبارة لا أنساها "الجميع يحبون القضية الفلسطينية لكن لا أحد يحب الفلسطينيين أنفسهم". حسناً، المخرجة آن ماري جاسر تعود بفيلم مليئ بالحب عنوانه "واجب".
آن ماري جاسر التي كانت أول مخرجة فلسطينية تصنع فيلماً روائياً طويلاً عندما قدمت "ملح هذا البحر" عام 2008، يليه "لمّا شفتك" في 2012، تقدم في فيلمها الطويل الثالث "واجب"، والمتنافس على جائزة الفهد الذهبي في المسابقة الدولية لمهرجان لوكارنو، حكاية عن العلاقة الأساسية الأكثر تجاهلاً من قبل صناع الأفلام العرب: علاقة الأب والابن التي لا نبالغ عندما نقول أن نصف مشكلاتنا اليومية على الأقل (من الغرام إلى السياسة) نابعة منها.
حكاية الداخل والخارج
تجمع المخرجة الممثل الكبير محمد بكري بابنه صالح بكري لأول مرة على الشاشة في فيلم طويل، مستفيدة من تكامل الموهبة والكاريزما والتشابه الشكلي ومعرفة المشاهدة بعلاقتهما في الواقع، لتروي حكاية معماري مقيم في روما يعود للناصرة من أجل زفاف شقيقته؛ ليقوم مع والده على مدار يوم كامل بأداء الواجب وتسليم بطاقات الدعوة للأقارب والأصدقاء متنقلين حول المدينة بسيارة الأب الفولفو القديمة من بيت لآخر داخل المجتمع المسيحي لفلسطينيي الداخل.
الأب المتمسك بالعادات والتقاليد ساخط على رفض ابنه العودة والاستقرار في بلده، على علاقة تربط الابن شادي بفتاة فلسطينية يعيش معها في روما دون زواج، خاصة وأن والدها من قيادات منظمة التحرير الذين يراهم استفادوا من النضال مالياً دون أن يدفعوا أي ثمن. والابن في المقابل يؤدي الواجب تجاه ذويه متضرراً مما يراه، من الشوارع المزدحمة المتسخة والتدخل في شئون الغير المسيطر على أي مجتمع عربي صغير.
على هذا المستوى يمتلك "واجب" مساحة كبيرة من تحليل الفروق بين فلسطينيي الخارج والداخل، بين المتمسكين بالنضال الراديكالي من بيوتهم الأوروبية الآمنة والذين تعلموا بمرور العقود أن هناك حد أدنى من الموائمة لابد من قبوله كي يتمكنوا من العيش بسلام. بين بطولة وطن الحلم وبطولة وطن الواقع وتربية الابناء. يُحلل الفيلم الفارق طويلاً عبر حكايتين ممتدين من بدايته لنهايته (الأم والمدعو اليهودي)، عكس باقي الحكايات التي يمر عليها البطلان في طريقهما لأداء الواجب ولا يعودان إليها من جديد (بعضها كان يستحق العودة كحكاية ابنة العم المحامية).
حكاية الأب والابن
غير أن الحديث عن الفيلم من مدخله السياسي فحسب سيكون خطأً كبيراً يجرد فيلم آن ماري جاسر من أعذب ما فيه وهو الحب. هذا فيلم يحب شخوصه باختلاف أطيافهم، ولا يخجل من ملامسة الإحباط المتبادل في علاقة الاب وابنه. كل منهما يريد من الآخر أن يكون صورة لأحلامه. الابن يحلم بالأب المناضل الذي يرفض الموائمة ويقف في وجه الصهاينة، والأب يريد أن يشعر بنجاحه في المهمة التي أُجبر عليها واختارها في آن واحد: تربية أبنائه في أسوأ ظروف اجتماعية وسياسية وأسرية، وجعلهم أشخاص ناجحين يفخر بهم أمام المحيطين الذين انكسر أمامهم يوم تركته زوجته.
هي علاقة حب وكره، أمل وألم، رضا وسخط، يمكن أن نقول أنها موجودة بنسب متفاوتة بين تسعة من كل عشرة آباء عرب وأبنائهم. ففي مجتمعات أبوية قروية بطبيعتها، ينشأ الفرد فيها من ناحية على قدسية صورة الأب من طاولة الطعام حتى رأس السلطة، ومن ناحية أخرى على قيمة تقدير المجتمع وتقييمه لأفعاله وخياراته كجزء لا يتجزأ من الإنجاز الحياتي، يغدو من البديهي أن تكون الآمال المتبادلة محركاً جوهرياً في غالبية علاقات الأبوة والبنوّة.
لذا فسيكون من التبسيط بمكان أن نتعامل مع علاقة شادي بأبيه، والتوتر المتصاعد بينهما في سيناريو مكتوب بحنكة، باعتباره صراعاً بين جماعات يمثلها كلاً منهما، سواء كان صراع أجيال أو معتقدات. "واجب" حكاية أعقد وأبسط في آن واحد. أعقد لأننا نحملها على أعناقنا من المولد للرحيل، وأبسط لأنها وإن ارتبطت بكل القضايا والشعارات فهي قبل كل شيء علاقة بين محبين لا أعداء. تعقد يبرزه خلاف حول دعوة زفاف يتصاعد لشجار صارخ حول القضية والنضال، وبساطة تتوجها النهاية بالغة العذوبة التي تؤكد أن المخرجة تعي يقيناً عن ماذا يدور فيلمها. عن جوهره الحقيقي رغم الظاهر السياسي.
وعي مخرجة ومأخذ وحيد
صورة أخرى لوعي المخرجة بعملها هو إدراكها الواضح لكونه عملاً يقوم بالأساس على حاصل جمع السيناريو المحكم متعدد مداخل التأويل بأداء ممثليّن من طراز فريد. آن ماري جاسر تعلم أنها تصنع فيلماً صغيراً في حجمه كبيراً في أفكاره، حتى وإن كانت تصنيفه ظاهرياً إنه فيلم طريق Road Movie. "واجب" لم يحتج على مستوى الصورة أكثر من ترجمة الحكاية لمشاهد تُمنح فيها المساحة الأكبر على الشاشة لوجهي محمد وصالح بكري، كورقة لعب رابحة تُغني صاحبها عن أي استعراض مصاحب.
لكن الحديث عن السيناريو والمحطات المنزلية التي يعبرها شادي وأبيه في طريقهما يدفعنا للإشارة لحلقة واحدة بدت خارج السياق كلياً هي زيارة شادي لحبيبته أو عشيقته القديمة. والتي تبدو زيارة معلقة في الهواء حرفياً، فلا هي تتضمن ما يدفع الأحداث للأمام ولا هي تضيف لنا أي معلومة إضافية عن شادي الذي عرفنا عنه كل شيء تقريباً. والمقارنة بينها وبين العزباء العجوز التي تحاول التقرب من الأب سيوضح الفارق بين ما يضيف للبناء الدرامي وما يتسبب في تعطيله.
أكتب هذا المقال ومسابقة مهرجان لوكارنو السبعين توشك على نهايتها، لا يزال هناك فيلمين أو ثلاثة قد يحمل أحدهم مفاجئة، لكن حتى وإن حدث هذا سيظل "واجب" واحداً من أبرز أفلام المسابقة وأجدرها بالجوائز (في السيناريو والتمثيل على الأخص). الأمر الذي يحمل تعويضاً عن المستوى المتواضع الذي ظهرت عليه تقريباً كل الأفلام العربية الأخرى المشاركة في البرامج المختلفة للمهرجان.
اقرأ أيضا
من المصارعة لكمال الأجسام: الجسد البشري في أفلام مهرجان لوكارنو