هناك نوعية من الأفلام تنجح في الوصول إلى قلبك دون أي عناء وتترك أثر في النفس لا يمكن نسيانه بسهولة، بسبب تفاصيلها الدقيقة الصادقة البعيدة كل البعد عن التزييف والمبالغة. وفيلم Manchester By The Sea للمؤلف والمخرج كينيث لونرجان يعد واحدًا من هذه الأفلام، فهو يقدم قصة إنسانية تحمل الكثير من المشاعر المعقدة المتعلقة بالحزن والفقدان بصورة تتماشي مع طبيعة الحياة وعبثيتها.
في فيلمه الثالث، الذي ينافس على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم سينمائي هذا العام، يركز لونرجان على العلاقات الأسرية التي تتعرض لاختبارات قاسية مع وقوع المَآسِي والمصائب، وكيف يتأثر المستقبل بالقرارات وردود الأفعال اللحظية، ويقدم نماذج مختلفة من الشخصيات كلًا منها له طريقته الخاصة في مواجهة الحزن والألم.
فيلم Manchester By The Sea يبدأ بمشهد افتتاحي للبحر وأمواجه حيث نسمع الحوار الدائر بين طفل وعمه على قارب، فالعم يحاول إقناع الصغير بأنه أفضل من والده لأنه يجيد الكثير من الأمور، ثم يسأله إذا تواجدت بجزيرة مع شخص من ستختار، فيرد "أبي".
ننتقل بعدها للمشهد الثاني لنرى أن العم هو "لي شاندلر/كيسي أفليك"، لكنه هذه المرة رجل عابس قليل الحديث من السهل أن يورط نفسه في مشاكل ونزاعات مع الأخرين. تأتي له مكالمة هاتفية من صديق يخبره أن شقيقه -الذي يعاني من مرض بالقلب- دخل المستشفى، فيضطر أن يترك عمله كرجل خدمات ونظافة في عدد من المنشآت السكنية بمدينة بوسطن لأيام، ويعود إلى مدينة مانشستر موطنه الأصلي. عند وصوله يعرف أن شقيقه مات ويجد نفسه المسئول الأول عن ابن أخيه "باتريك/لوكس هيدجز" البالغ من العمر 16 عامًا.
ومن هنا يبدأ لونرجان في نقلنا بين الماضي والحاضر دون مقدمات، ويأخذنا في رحلة حزينة لنعرف ماذا حدث للرجل المبتسم المقبل على الحياة حتى تحول إلى شخص بائس غير اجتماعي، ولماذا يرفض أن يتولى مسئولية المراهق رغم أنه من الممكن أن يكون الدافع الوحيد الذي يعيش من أجله بعد مأساة فقدان أسرته الصغيرة، لكن الفيلم لا يكتفي بالإجابة عما يشغلك، هو أيضًا يطرح الكثير من الأسئلة المتعلقة بكيف يمكن مواصلة الحياة بعد التعرض للانهيارات.
يظهر التغير الذي حدث مع مرور السنوات في العلاقة بين العم وابن شقيقه، ويتضح أيضًا أنهما يمثلان صورتين متناقضتين في التعامل مع مشاعر الجذع والفقد، ولكن هذه المرة لا يوجد خيارات فهما مجبران على التواجد معًا.
يركز الفيلم على هذه التناقضات، ففي الوقت الذي ينعزل فيه "لي" عن العالم، ويظهر حزنه كأنه نوع من الدفاع عن النفس بسبب شعور الذنب المسيطر عليه لتسببه في حرق منزله وأولاده، يرفض "باتريك" أن تنقلب حياته رأسًا على عقب، ويصر ألا يرحل مع عمه إلى بوسطن، ويتمسك بمدينته ومدرسته وحتى صديقاته اللاتي يواعدهم.
والحقيقة أن الفيلم لا يقتصر عليهما وعلى معاناتهما، فجميع الشخصيات عاشت تجارب مشابهة وواجهت شبح الموت، حتى الحكايات الثانوية يروي أصحابها ذكرياتهم مع موت أعز أقاربهم مثل مدرب "باتريك" الذي يخبره أنه فقد والده في نفس عمره.
واحد من أفضل المشاهد المعبرة عن الحالة العامة للفيلم، مشهد لقاء "لي" بزوجته السابقة "راندي" صدفة، وهي معها مولودها من زوج أخر. ففي الوقت الذي تعتذر هي فيه عما حدث في السابق، وما بدر منها وهي حزينة، ومحطمة، يتعثر هو في الرد، ويتلاشى صوته، ويرفض الاستمرار هذا اللقاء الذي يوضح كيف أثر ماضيهما التعس على علاقتهما، وكيف تباينت اختياراتهما، وطريقة مواجهتما للأزمة. في هذا المشهد يبرع كلا من كيسي أفليك وميشيل ويليامز ويقدمان أداء يمنحهما الترشح لجائزة الأوسكار كأفضل ممثل وأفضل ممثلة مساعدة.
لا يمكن الحديث عن حالة الفيلم وأجواء القصة الدرامية التي تدور في فصل الشتاء، دون الحديث عن الموسيقى التصويرية المميزة للمؤلفة ليزلي باربر، التي امتزجت بعدد من مقاطع الموسيقى العالمية الشهيرة مثل "المسيح" لهاندل و" Chérubin" لجول ماسينت، وأضفت حالة من الشاعرية والكلاسيكية على المناخ العام.
بالرغم من حجم المَآسِي إلا أن شخصيات الفيلم التي يقدمها لونرجان جميعها تبحث عن البدايات الجديدة، صحيح أن القدرات متفاوتة والفرص ليست متشابهة إلا أن هناك أسباب جديدة تظهر للاستمرار في الحياة.