لقطة واحدة تكفي للتعبير أحياناً عن فيلم كامل، وزيارة واحدة إلى خيمة حكام مهرجان أجيال في الحي الثقافي كتارا كافية كي تُثمّن ما يقوم به هذا المهرجان من جهد ربما يحتاجه كل مكان يسعى لخلق مستقبل أكثر إشراقاً.
داخل الخيمة هائلة الحجم تجد مئات الأطفال والشباب، من عمر الثامنة وحتى الحادية والعشرين، مقسمين لمجموعات حسب أعمارهم، يمرحون ويتحركون بحرية ويجتمعون لمشاهدة أفلام سينمائية، يحضر صناعها لمناقشة هذا الجمهور المدهش والإجابة على تساؤلاتهم، التي لا يوجد مخرج ممن تحدثت معهم لم يبد دهشته من ذكائها وتعبيرها عن فهم غير متوقع لما يقصده كل فيلم.
لا نتحدث هنا عن حافلات يتم شحنها عشوائياً بأطفال مدارس لملء قاعة لا يعلمون لماذا يجلسون فيها، وإنما عن عمل دؤوب على مدار العام يهدف لجعل مشاهدة الأفلام والتفكير في محتواها عادة دائمة في حياة الطفل اليومية. وليس مجرد المشاهدة السلبية، بل المرتبطة بآلية نقدية تطرح أسئلة حول الفيلم، وتقارن بين الأفلام للتصويت لأفضلها، فكل جوائز المهرجان تمنحها لجان تحكيم الصغار.
إعلاء لقيمة الخيال
إذا ما حاولنا الربط بين ما سبق وبعض أفلام المهرجان، فلن نجد مثالاً أفضل من الفيلم الإستوني"الجمعية السرية لمدينة سوب Secret Society of Souptown"، فيلم المخرج مارجوس باجو الذي لاقي استحساناً وشعبية كبيرة بين أطفال لجنة تحكيم قسم "محاق" المخصص لمن هم بين 8 و12 عاماً، بصورة تجعله في الأغلب المرشح الأول لجائزة هذا القسم.
الفيلم يدور في أجواء قد تقارب أفلام ديزني العائلية، مع حبكة أذكى عن مجموعة من الأطفال في مدينة إستونية يشكلون جمعية سرية تهدف لحل ألغاز من أجل العثور على كنوز بسيطة مخبأة، لكن انتشار وباء في المدينة يُفقد الكبار عقولهم يجعل أعضاء الجمعية يخوضون أول اختبار حقيقي: استخدام أدلة وحل ألغاز من أجل الوصول للترياق الذي يعالج هذا المرض.
عبر سلسلة من المغامرات المثيرة والألغاز الذكية يتمكن الصغار بالطبع من حل اللغز وإنقاد مدينهم. لكن الأهم من النتيجة المنطقية في فيلم عائلي، هو هذا الإعلاء لقيمة الخيال الذي يوظفه الأبطال في سياق منطقي كي يتخطوا كل عقبة في مهمتهم، ارتباطاً بقدرتهم على تصديق ما يرفضه الكبار ويعتبرونه مجرد وهم أو لعب غير مجدي، ليمرر الفيلم بشكل ما لمشاهديه الصغار درساً عن تفكير ربما يحتاجه هذا العالم من أجل مستقبل ـ يبدو بحسابات الكبار المنطقية ـ عسيراً.
تجربة محلية جريئة
على جانب آخر قامت لجنة التحكيم الوحيدة المشكلة من محترفين بإعلان جوائز مسابقة "صُنع في قطر" للأفلام المحلية، اللجنة المشكلة من 3 سينمائيين خليجيين انحازت لذوق كلاسيكي بمنح جائزة أفضل فيلم روائي للمخرجة جوهرة آل ثاني عن "كشته" وأحسن تسجيلي لجاسم الرميحي عن "عامر أسطورة الخيل العربية"، مع شهادتي تقدير لفيلمي "الجوهرة" لنورة السبيعي و"أكثر من يومين" لأحمد عبد الناصر.
غير إنه وبمشاهدة جميع الأفلام المتنافسة يبدو أن لجنة التحكيم لم تنتصر لفيلم أراه الأفضل والأكثر جرأة بين 17 فيلماً تنافست في هذه المسابقة. الفيلم يحمل عنوان "غرفة الانتظار" من إخراج هند فخرو، وهي مخرجة شابة من أب قطري وأم مصرية، تمكنت في فيلم لا يتجاوز 23 دقيقة من إدخال السينما المحلية القطرية في مساحة لم تلجها من قبل خلال تاريخها القصير. المساحة المقصودة هي السيرة الذاتية autobiography بمعناها الكشفي، الذي يحاول صانع الأفلام خلاله استخدام السينما كوسيلة للتصالح مع أمور شائكة تخصه بشكل شخصي، وهي في حالتنا هذه العلاقة من الآباء.
الفيلم يدور بالكامل تقريباً داخل مستشفى يقيم فيها والد المخرجة (التي تظهر بنفسها وإن أطلقت على الشخصية اسماً مختلفاً). الحكاية العامة عن ألفة وتناغم يجمعها مع فتاة أجنبية تأتي هي الأخرى للمستشفى لمرافقة والدتها التي تشارك والدة المخرجة الغرفة نفسها. صداقة تجمع الفتاتين في غرفة الانتظار ووسط تدخين السجائر (وهي جرأة نسبية في مجتمع محافظ أن تظهر الفتاة مدخنة ودون حجاب)، لكن الأهم والأكثر جرأة من هذه الصداقة هو صورة والد البطلة ووالدتها.
الوالد يجعله المرض مضطرب الوعي، لا يشعر أحياناً بمكانه ويتحدث وكأنه في مكتبه، والأم من الواضح أن هناك شرخ بينها وبين ابنتها، يصل لأن تقوم الابنة بالصراخ في وجهها أمام الجميع عندما تحاول أن تفرض سطوتها في أحد الموضوعات.
أي مقارنة على مستوى المحتوى السينمائي بين فيلم "غرفة الانتظار" وبين باقي الأفلام المشاركة في المسابقة ستميل منطقياً لصالح الفيلم، لإنه وبخلاف إتقان الصنعة الذي لا تزال بعض الأفلام تعاني من غيابه، هو الأكثر تقدماً في فهمه الحداثي لطبيعة الوسيط. فهم عندما يأتي من شابة خليجية في بلد بلا تاريخ أو صناعة سينمائية فهو بالتأكيد يحتاج لتحية وتقدير لم تقدمه لجنة التحكيم لهند فخرو.