رسالة أيام قرطاج السينمائية (2): السينما داخل السجن.. عرض خاص جداً

تاريخ النشر: الخميس، 3 نوفمبر، 2016 | آخر تحديث:
أيام قرطاج داخل سجن مرناق

طبيعة عملنا تسمح لنا بمشاهدة الأفلام في مختلف الأماكن وظروف المشاهدة. في قاعات التياترو الكلاسيكية الضخمة وفي صالات المالتي بلِكس الضيقة كالعلب، على مقاعد وثيرة يدفعك بعضها دفعاً للنوم لا المشاهدة وعلى مقاعد خشبية تنهي الفيلم وقد انتهكت ظهرك، وسط جماهير بالمئات وأمام شاشة تعمل لك وحدك أو لأشخاص تعدهم أصابع اليد، بين مشاهدين شعبيين يتحدثون في الهاتف ويغرقونك بقشور اللب وجوار أوروبيين متحذلقين يتأففون إذا ما غيرت جلستك أكثر من مرة!

إلا أن أيام قرطاج السينمائية سمحت لنا هذا العام أن نحضر عرضاً فريداً من نوعه، ليلة ستظل طويلاً في الذاكرة، سواء في تفاصيلها وما بها من توقعات وضحكات ومفارقات، أو ما أسفرت عنه من دهشة سببها خروج الكثير من الأحداث بعيداً عن أي تصورات مسبقة. العنوان يشير بالطبع إلى هذه التجربة الاستثنائية: مشاهدة فيلم وسط المساجين.

ففي مساء 31 أكتوبر تحركت حافلة تحمل فريق الفيلم التونسي "زيزو" للمخرج الكبير فريد بوغدير، مع عدد من الصحفيين والإعلاميين المحليين والأجانب، متجهة إلى سجن مرناق الذي يشهد افتتاح الدورة الثانية من عروض قرطاج في السجون، التجربة التي بدأت العام الماضي بشكل محدود وتوسعت هذا العام لتشمل عرض مجموعة من أفلام المهرجان في ستة سجون مختلفة في أنحاء الجمهورية التونسية.

عن الدور الاجتماعي للمهرجان

العرض المدهش يجب النظر إليه على ثلاثة مستويات من التأثير، أو من الإعجاب إن أردنا الدقة. أولها هو المهرجان، الحدث الضخم المشغول باستضافة مئات الضيوف وعرض مئات الأفلام في عدد هائل من الصالات، أكثر من عشرين صالة في العاصمة وحدها بخلاف عروض في المدن المختلفة وفي الجامعات وحتى الثكنات العسكرية. ما الذي يجبر حدثاً بهذا التشعب أن يُلزم نفسه بمزيد من الصعوبات لاسيما مع ما تعاني منه الدورة من بعض التخبط التنظيمي؟ لا يوجد سبب سوى قناعة القائمين على المهرجان بدور الحدث السينمائي في المجتمع.

إبراهيم اللطيف مدير المهرجان روى أن العبارة التي جعلته يصر على استمرار الحدث هو قول مدير عام مصلحة السجون له بأن عرض الفيلم الواحد العام الماضي جعل إدارة كل سجن ترتاح لأسبوعين أو ثلاثة من كل مشكلات السجناء، الذين صاروا أكثر هدوءًا وأقل إثارة للشغب، وهو أمر طبيعي ومنطقي لأن السينما حرية وسماء مفتوحة، مجرد التعاطي معها كافٍ لمنح من سُلب حريته بعض الصفاء والهدوء. وبين أكثر من 500 نزيل في سجن مرناق شاهدوا الفيلم، وقياساً على شكل تفاعلهم مع ما رأوه، ربما تكون فترة الهدوء هذه المرة أكبر وأكبر.

سجن ليس كسجوننا

المستوى الثاني للملاحظة هو السجن نفسه، والذي لابد من التأكيد على أننا شاهدنا صورته المشرقة فحسب، وأن جدرانه قد تم طلاؤها ورسم شعار المهرجان عليها ترقباً لوصول الضيوف، لكن حتى مع وضع هذا في الاعتبار ومحاولة قياس الانحراف المعياري عن الحقيقة، سنجد أننا أمام سجن آدمي حقاً، بداية من ديكوراته الملونة المريحة للأعصاب، والتي قيل لنا أنها خيار واعٍ بعدم استخدام الألوان الداكنة حتى لا تزيد من اكتئاب المساجين، مروراً بالرسوم والزخارف على الجدران والتي قام برسمها أحد السجناء المحكوم عليهم في قضية مخدرات لكنه يمارس هوايته بحرية لدرجة القيام بتصميم ورسم وتلوين جدران السجن بالكامل، وصولاً لحجم الانفتاح الذي لمسناه في الكثير من الأمور.

قبل الوصول للسجن قالوا لنا أننا أحرار في تصوير كل شيء، لكن لا نصور السجناء إلا لو طلبوا هم ذلك، ويُفضل أن تكون وجوههم مطموسة في الصور، وألا نبدأ الحديث مع سجين أو نبادره بسؤال إلا لو سعى هو للحوار معنا. شروط معقولة بالطبع، غير أن الواقع كان أكثر تساهلاً بكثير، لا أحد يعوقنا عن التصوير أو يطلب بمراجعة صورة أو حذفها، من يريد الخروج للتجول في المنطقة المحيطة بقاعة العرض يفعل ذلك بحرية، السجناء أنفسهم يتطوعون للظهور في الصور والحديث وتبادل النكات مع الحضور، لا سيما بعدما طلب مدير السجن ألا تكون أماكن الجلوس منفصلة بين الضيوف والسجناء، بل كان الجلوس بحرية فشاهد طاقم الفيلم عملهم وسط مقاعد النزلاء وجلس جوار الإعلاميين عدد آخر من المدانين.

"الحكم بالسجن سالب للحرية فقط، لكنه لا يسلب السجين باقي حقوق المواطنة في التعليم والرعاية الصحية والثقافية، وهو ما نصر عليه ورحبنا بسبب بوجود أيام قرطاج السينمائية داخل السجون"، هكذا وصف مدير مصلحة السجون الأمر في بداية الاحتفالية موجزاً ما لمسناه من آدمية يتعامل بها السجن مع نزلائه ربما تعد رفاهية بالمقارنة بأحوال بعض سجوننا.

جمهور خاص جداً

يتبقى العنصر الثالث والأهم في المعادلة وهم المساجين أنفسهم، المدانون في قضايا مختلفة والذين تنتمي غالبيتهم العظمى لأعمار العشرينات. فقبل الذهاب للسجن ونظراً لأن بعضنا شاهد الفيلم من قبل ويعرف باحتوائه على بعض المشاهد التي قد ترفض الرقابات المتحفظة عرضها حتى على الجمهور العادي، فكنا في حذر من رد فعل أشخاص مسلوبين الحرية ومنقطعين عن الجنس الآخر من مشاهدة العمل. ناهيك عن تحذير عدم مبادرتهم بالحديث أو تصوير وجوههم والذي زاد قدر التخوف.

الواقع أتى بعكس ذلك تماماً، فالنزلاء الذين تسابقوا في التقاط الصور التذكارية التي يعلمون أنهم لن يحصلوا على نسخة منها، تحدثوا مع الضيوف كلما سمحت الظروف بذلك، تفاعلوا مع الفيلم بشكل إيجابي جداً، ضحكوا وصفقوا واستمتعوا، وتعاملوا باحترام كبير مع أبطال الفيلم وبطلاته واحتفوا بهم قبل العرض وبعده. وهو سلوك لابد من التأكيد على كونه مثيراً للإعجاب، لأنه بالتأكيد ليس تهذيباً تحت التهديد، فمن يجلس مرغماً لمشاهدة فيلم وهو خائف من الإقدام على تصرف يعاقب بسببه لن يكون بهذه السعادة والانطلاق في التعبير.

وإذا كان العرض بالنسبة لمديري السجون هو وسيلة لتهدئة المساجين لمدة شهر، وبالنسبة لإدارة المهرجان هو توسع ضروري في دور الحدث الاجتماعي، فهو بالتأكيد كان بالنسبة للسجناء وللضيوف حدثاً لا يُنسى، وبالنظر إلى الأعمار الشابة والأعداد الكبيرة فيمكنني القول بأن هناك سجين واحد على الأقل سيغير هذا العرض من مساره ويدفعه نجو مسار مختلف بعد انقضاء فترة عقوبته، وهو أمر إن حدث سيكون إنجازاً كافياً لهذا العرض شديد الخصوصية في سجن مرناق.