على مدار حوالي عقد ونصف، ومنذ أن عرفناهم شباباً يصنعون فيلماً للهواة بعنوان "رجال لا يعرف المستحيل"، حمل الثلاثي أحمد فهمي وشيكو وهشام ماجد روح التجديد للكوميديا المصرية. روح لا تقتصر على تغيير الوجوه والأسماء ـ فهذا أمر لم تفتقده السينما المصرية أبداً ـ وإنما تقوم على تطوير الشكل الكلاسيكي لصناعة الإضحاك، وطرق أبواب جديدة باستمرار سواء على مستوى واسع كنوع الكوميديا ومرجعياتها، أو على مستوى أكثر تخصصاً هو بناء النكتة أو الإيفيه الواحد، الأمر الذي نقول بثقة أن الثلاثي كان سبباً رئيسياً في حدوث طفرة له على مدار السنوات الماضية بأعمالهم السينمائية والتلفزيونية، وحتى بتجاربهم في تقديم البرامج.
(تحدثنا عن تطوير الثلاثي لتقنيات لطرق الإضحاك في مقال سابق)
في موسم العيد الحالي ينفصل الثلاثي للمرة الأولى منذ ظهورهم، بل وتجبرهم ظروف التوزيع على الوقوف في مواجهة بعضهم البعض، أحمد فهمي بفيلم "كلب بلدي" الذي كتبه مع شريف نجيب وأخرجه معتز التوني، وهشام ماجد وشيكو بفيلمهما "حملة فريزر" الذي وضعا قصته ليكتبها ولاء شريف، تماماً كما وضعا قصة فيلم آخر هو "عشان خارجين" ليكتبها فادي أبو السعود. وتواجد الثلاثي في مقاعد التأليف لنصف أفلام موسم العيد هو دليل واضح على تأثيرهم في صناعة الكوميديا.
أما انفصالهم على الشاشة فهو أمر أعتقد أنه يأتي في الوقت الصحيح، ليأخذ كل منهم مساحته في تجريب كان العمل الثلاثي يعوقه مؤخراً، في ظل القصدية المُسبقة بجعل كل حكاية صالحة لأن يلعب بطولتها ثلاثة ذكور بمساحة أدوار مختلفة. الأمر الذي كان مقبولاً في أعمال مثل "سمير وشهير وبهير" و"بنات العم" المبنية بالأساس على البطولة الثلاثية، وكذلك مسلسل "الرجل العناب" الذي يسمح زمنه بإعطاء كل خط درامي حقه، لكنه ظهر كعائق كبير في آخر أفلامهم "الحرب العالمية الثالثة" الذي اضطروا فيه لتصعيد شخصيات يفترض طبقاً للبناء الدرامي أن تكون داعمة (توت عنخ آمون وعلاء الدين)، لتصير شخصيات رئيسية دون أن يكون لذلك تبرير مُقنع من داخل الحكاية اللهم إلا الرغبة في منح الأبطال الثلاثة مساحتهم على الشاشة.
الانفصال إذن كان شراً لابد منه، لكن العمل الأول بعيداً عن المجموعة هو تحدٍ كبير خاصة لأحمد فهمي الذي فضل العمل بمفرده، لأن الجمهور سيقوم ـ شئنا أم أبينا ـ بعقد مقارنة بين مستوى العمل وما تعوّد عليه من الثلاثي معاً. فما مدى نجاح فهمي في عبور هذا الاختبار العسير؟ هذا ما سنحاول بحثه في هذا المقال.
فكرة جديدة.. عناصر قديمة
ينطلق "كلب بلدي" من فكرة تحمل قدراً كبيراً من الطزاجة: طفل تُرك في الشارع فقامت كلبة بإرضاعه وتربيته فكبر ولديه حواس الكلاب.
الفكرة جديدة ومليئة بالاحتمالات والمواقف الممكنة، عن هذه القدرات التي صار البطل روكي ابن فريسكا (أحمد فهمي) يتمتع بها، فيم يمكن أن يستخدمها وكيف يتعامل الناس مع وجود نصف شاب نصف كلب بينهم؟ في الفكرة ما يكفي لصياغة فيلمين أحدهما كوميدي والآخر أكشن إذا ما تم شغلها بذكاء.
أزمة الفيلم تكمن في إهدار هذه الفرص العديدة، والاكتفاء بطرق الحد الأدنى من الأبواب التي تتيحها الفكرة، باستخدامها في خلق عدد محدود من المواقف المضحكة التي يعتمد معظمها على تفاهم البطل مع الكلاب (كلبة تريد التزاوج معه / كلبة تعترف له بسر مرضها)، بالإضافة إلى إطار خارجي لحكاية أكبر هي قيام البطل الكلب بإنقاذ مصر من خطة ضخمة يدبرها الشرير وردة الحلواني (أكرم حسني).
بخلاف هذا لا يكاد السيناريو يستفيد من صفات البطل، وينخرط كلياً في العناصر القديمة المستهلكة على مستوى الشكل والمضمون، بما يفقد الفكرة بريقها بمرور الوقت على المشاهد دون أن يقدم له الفيلم مفاجآت توازي توقعاته.
العناصر المكررة تبدأ من الشخصيتين الرئيسيتين في الفيلم: روكي ووردة. قدرات روكي لا تظهر إلا في المشاهد المعدودة التي تحدثنا عنها، بينما يظهر في النسبة الأكبر من زمن الفيلم كصورة باهتة من شخصية عصفور الجنينة التي لعبها فهمي قبل ثلاثة أعوام في "الرجل العناب"، بمستوى ذكائه المنخفض وطريقة حديثه الشعبية ومحاولته المستميتة لإقناع البطلة بحبه.
لاحظ أننا نتحدث عن شخصية يفترض أنها تحمل الكثير من صفات الكلاب، والكلب هو أحد أذكى الحيوانات وأقواها إدراكاً، لكن بناءً منطقياً كهذا كان ليُفسد شكل المواقف المُعلبة التي يحاول روكي فيها أن يثبت للبيطرية زبرجد (ندى موسى) أنه ضابط شرطة ثري، لذا فالفيلم يخالف منطق الشخصية لثلاثة أرباع زمنه، قبل أن يعود ويريد منّا أن نقتنع بقدرة روكي على مواجهة خطة الشرير العبقري. بل الطريف أن ذلك يتم عبر خطبة عصماء يلقيها على كلاب مصر بلغة البشر، أي أن أي إنسان آخر بإمكانه أن يلقيها دون أن يكون قد رضع من كلبة!
التكرار نفسه نجده في شخصية وردة الحلواني، برسمها الكارتوني الذي يذكرنا فوراً بشخصية عزيز الهَنش التي لعبها إدوارد في فيلم "بنات العم"، بشكل ملابسه وطريقة حديثه الواقعة بين الطفولة والخنوثة. لن نتحدث عن الفهم الغائب لخطة وردة والسبب غير المفهوم لرغبته في السيطرة على عقول المصريين، لأنه في النهاية شرير فيلم كوميدي لا يعيب شخصيته أن تكون أحادية كارتونية غريبة الدوافع، لكن ما يعيبه حقاً هو ألا يكون مضحكاً رغم منحه مساحة كبيرة من شريط الفيلم، وللأسف رأينا أكرم حسني بشكل باهت في ظهوره السينمائي الأول، حتى أن الدب القطبي المحب لتامر حسني الذي يربيه في قصره تمكن من انتزاع ضحكات تفوق بكثير ما حققه صاحبه.
ليست الشخصيات فقط
لو كانت المشكلة تتعلق برسم الشخصيات فقط فقد كان من الممكن التعامل مع الأمر باعتباره محاولة لاستثمار تيمات ناجحة فهمي هو أحد مبتكريها وبالتالي من حقه إعادة الاستفادة منها. لكن الأزمة الحقيقية تكمن في توظيف العناصر التي نجحت في سياق كوميدي ذكي ومغاير ووضعها داخل عمل يحاول الإضحاك باستخدام حيل وتقنيات كلاسيكية لم يكن أبداً بطل الفيلم أحد ممارسيها.
كي نضرب مثلاً على ذلك سنقارن بين توظيف الممثلة دينا محسن في دور أم البطل روكي (في الاختيار مشكلة مبدئية هي أن الممثلة أصغر سناً وشكلاً من فهمي الذي يلعب دور ابنها لكن هذا ليس موضوعنا). دينا الشهيرة بويزو تمتلك جسداً بديناً على غرار الكثير من ممثلي الكوميديا الداعمين (السنّيدة) في السينما المصرية، وعلى غرار جسد شيكو شريك رحلة بطل الفيلم وأعماله السابقة، أي أنه في كل أفلام أحمد فهمي السابقة كان هناك شخصية رئيسية ذات جسد بدين، وفي كل مرة يتم توظيف هذا العنصر في الكوميديا، ولكن بين طريقة إضحاك وأخرى يكمن الفارق.
الكوميديا على طريقة الثلاثي كانت تعتمد على الابتعاد عن التوقعات، بل والإغراق في التعامل مع المظاهر الغريبة باعتبارها أمراً طبيعياً. حيلة كان مظهر شيكو أحد دعائمها من لحظة أن أُجبر على لعب دور العميلة المغريّة الذي لعبته مادلين طبر بفيلم "الطريق إلى إيلات" في المعالجة الساخرة "رجال لا تعرف المستحيل". التعامل بصورة عادية مع تنكر أصلع بدين في صورة امرأة تغوي ضابط اسرائيلي، أو كون صاحب الجسد نفسه هو محبوب فتيات الجامعة في "سمير وشهير وبهير"، أو ضابط شرطة محب للتمثيل في "الرجل العناب"، أو حتى الملك توت عنخ آمون الذي يعرف الجميع أنه مات طفلاً في "الحرب العالمية الثالثة"، كلها صور للضحك عندما يأتي من مصدر غير معتاد.
الذي يحدث في "كلب بلدي" هو النقيض تماماً، الشخصيات وتصرفاتها والنكات الصادرة منها وعنها كلها تدور في الإطار المحفوظ والمتوقع، ودينا محسن هي مجرد شخصية بدينة أخرى مثل مئات الشخصيات السابقة، يسخر الفيلم من بدانتها فيجعلها تلعب التنس تارة وتتسلق ماسورة مجاري تارة أخرى، بمصاحبة إيفيه ملفوظ أو مسموع في كل مرة ينزل بالكوميديا إلى مساحة من الفارص Farce المعوي الذي لم يقترب منه الثلاثي من قبل في أفلامهم (اللهم إلا في شخصية عزيز الهَنش التي ذكرناها من قبل).
الشكل الذي لا ينكسر إلا في مشهد واحد هو قتال الأم على طريقة النينجا، المشهد الطريف المُنفذ إخراجياً بشكل جيد وإن كان بعيد عن المنطق الحاكم للشخصية. وفي التناقض بين هذا المشهد وباقي ظهور الأم في الفيلم يكمن الفارق بين نوع الكوميديا الذي كان من الممكن أن تأتي من فكرة الفيلم والنوع الذي انتهى عليه الأمر.
بداية تحتاج للتصويب
هل يعني هذا أن "كلب بلدي" فيلم سيئ؟ الإجابة ستكون نسبية. إذا ما قارناه بغالبية الأفلام الكوميدية المصرية التي يلعب بطولتها بطل منفرد سنجده بالتأكيد أفضل حالاً، بفكرته الطازجة وببعض مساحات الضحك فيه (لا سيما ما يتعلق منها بفكرة العلاقة مع الحيوانات)، وبجودته الإنتاجية النسبية خاصة في تنفيذ مشاهد ظهور الكلاب (على النقيض من الديكور بالغ الفقر لغرفة تحكم وردة وغرفة الدب القطبي).
أما لو قارنّا الفيلم بأعمال بطله السابقة مع شيكو وهشام فهمي، والتي ستظل لفترة في أذهان الجميع في كل عمل يقدمه أحد الثلاثة بعد الانفصال، فإن "كلب بلدي" يمثل تراجع واضح سواء في مستوى العمل ككل، أو قدر الضحك الحقيقي فيه، أو ـ وهو الأهم ـ في تقنيات هذا الضحك الكلاسيكي الذي يأتي من نجم كان من أوائل من أثبتوا وجود سبل أفضل للكوميديا.
اقرأ أيضا
"البس عشان خارجين".. مغامرة كوميدية مستمرة
رسالة لوكارنو السينمائي(4)- "الماء والخضرة والوجه الحسن".. يسري نصر الله يصالح السينما الفنية والتجارية