ما أن تبدأ في مشاهدة الفيلم الوثائقي الطويل "هواجس الممثل المنفرد بنفسه" للمخرج الجزائري حميد بن عمره، حتى يجذبك الأسلوب السردي البسيط رغم كونه في حقيقة الأمر أشبه بعقدة حبل يلتف حول نفسه. هناك تقاطع ما بين الحاضر والماضي، وهناك شخصية الممثل المسرحي الجزائري محمد أدار الحاضرة بقوة، وإن كانت شخصية المخرج بن عمره طاغية في معظم اللقطات عن طريق لغته السردية الفريدة التي تخطف المشاهد خاصة عندما يرتدي محمد أدار أنف المهرج الحمراء ويأخذ في اللهو على خلفية سوداء غارقة في الظلمة بينما يحكي تاريخ عملة بلاده التي انهارت مع انهيار النظام الاقتصادي.
"التاريخ، إذا لم تكتبه أنت، كتبه العدو"
يبدأ موقف بن عمره من الهوية يتبلور، في الجزء الذي تقول فيه الراوية –الممثلة ستيفاني بن عمره- أن محمد أدار "إفريقي، حتى وإن لم يكن الميلانين كافي في جلده"، ثم تتحدث عن معنى الهوية، وماهيتها. الفيلم –والذي يستمر لأكثر من ساعة ونصف- أشبه بحلم طويل ممتد، لا يستطيع المشاهد الخروج منه بكابوسيته وجوه السريالي القاتم أحيانًا. يشعر المشاهد أنه محاصر بينما محمد أدار يتحدث موليًا وجهه للكاميرا في ثقة. تتابع الكاميرا أدار وهو يبدأ بروفات مسرحية جديدة، يخرجها ويقوم فيها بدور الإسكافي "حمّى" والذي يؤسس حزبا سياسيا يرشح به نفسه رئيسًا لجمهورية الجزائر.
ما يجعل لهذا الفيلم طعمًا مختلفًا، هي التوليفة التي استطاع بها بن عمره مزج مشروعه بأحلام وهواجس ممثله الأول أدار. تشعر وكأنما خطّي حياتيهما –على اختلافهما كليًا- واحد، كما نهرًا وبحرًا التقيا سويًا في مصب واحد، وإن اختلف المصدر. الفيلم سياسي من الدرجة الأولى، لكنه يلقي باعتماده الكلي على الدراما للتعبير عن الأوضاع الاجتماعية والنفسية، بدلًا من بوق التوجهات السياسية الزاعق والذي تمتعت به كثير من الأعمال الدرامية والأفلام العربية منذ زمن للتعبير عن قضيتها سواء مناهضة أو داعمة. هنا بأقل أقدر من التعبير، وباستخدام ملكاته المسرحية ببراعة، يترجم أدار رسالة حميد بن عمره المضفرة تضفيرًا جيدًا في صلب حدوتة الفيلم.
"من أكون؟ ومن تكون؟ هل أنا أنت وهل أنت أنا؟"
يرفض المخرج حميد بن عمره ما يطلق عليه بال "تفرنك" نسبة إلى أجيال من السينمائيين الجزائريين –والعرب عامة- الذين اتجهوا للتعبير عن أنفسهم تحت مظلة الثقافة الفرانكوفونية طمعًا في نيل رضا المهرجانات العالمية والتي تبحث عن الأفلام –طبقًا لحواره في مجلة أعناب- العربية ذات الطقوس الفلكلورية المزركشة. ربما لهذا يجنح فيلمه "هواجس الممثل المنفرد بنفسه" للتجريد والتجريب، أبعد ما يكون عن عناصر الجذب المعتادة لفيلم عربي وإن كانت كل لقطة تنضح بإثنية غير مفتعلة أو متداركة عن عمد.
الفيلم يقفز ما بين الماضي والحاضر والمستقبل، كما يتخطى حاجز العمر مسلطًا الضوء على المخرج في منتصف العمر، والطفلة هناء بن عمره (ممثلة طفولة بن عمره وأدار) ومحمد أدار نفسه ممثلًا الكهولة. يبدو أدار في أداءه الحالم أشبه بدون كيشوتي لا تعرف هل يحارب طواحين الهواء الموجودة سلفًا، أم أنه يحارب أشباحه الذاتية؟ هل يعبر في حملته الانتخابية المتخيلة عن كيانه كممثل، عن هواجسه كانسان لم يعد الفن بحاجة إليه، عن كونه خارج إطار الزمن؟ أم أنها هواجس المخرج ذاته، في خروجه من بلاده إلى فرنسا لدراسة السينما، في انتمائه للفكرة أكثر من الهوية؟ في تعريفه للهوية ذاتها؟
الأجمل أنك لا تجد إجابات لتلك الأسئلة، تعيش الحالة التي يرغمك المخرج على دخولها بإرادتك، مع شعورك بأنك مسلوب الإرادة. تسمع تعليقات محمد أدار على التاريخ والفن والسياسة، فتشعر وكأنما التساؤلات قادمة من أعماقك أنت، على اختلاف اللهجة والمكان. لكن الهم واحد، كما الهواجس واحدة.
فيلم "هواجس الممثل المنفرد بنفسه" عرض في المسابقة الرسمية لمهرجان الأقصر للسينما الأفريقية (١٧- ٢٣ مارس، ٢٠١٦)، وحصل على "تنويه خاص" ضمن مسابقة الأفلام الروائية الطويلة مناصفة مع الفيلم الروائي الطويل المغربي "جوع كلبك" للمخرج المغربي هشام العسري.