"قدرات غير عادية".. خاتمة لابد منها

تاريخ النشر: الجمعة، 15 يناير، 2016 | آخر تحديث:
الملصق الإعلاني لفيلم قدرات غير عادية

يُدمن المتابعون والكتاب الذين يتعرضون لأفلام المخرج الكبير داود عبد السيد الحديث عما اصطلح على تسميته بمستويات التلقي، الوصف الذي انتشر مع عرض فيلم "أرض الخوف"، وتم سحبه سريعاً ليُطبّق على جميع أفلامه التي صار البعض يقصر وجه المتعة فيها على أن "كل مشاهد بإمكانه أن يتمتع بها قدر استيعابه"، والمقصود هو أن الفيلم يقدم حكاية جذابة على مستوى الأحداث يمكن الاكتفاء بها لمن لا يريدون أكثر من المتعة، مع وجود أبعاد أعمق موجهة لمن يتعامل مع الفيلم كعمل فكري وخطاب دلالي.

حسناً، لا يمكن أن نختلف إجمالاً مع القيمة الإيجابية في قدرة العمل ـ أي عمل ـ على التواصل مع قطاع أوسع من المتلقين، ففي النهاية السينما صناعة جماهيرية، لكن ما يجب التأكيد عليه أن التبسط ليس إنجازاً في حد ذاته، وأن ذلك التواصل الموّسع سيكون أمراً محموداً طالما لما يكن ثمنه تنازل الفنان عن خياراته الإبداعية الأولى، وطالما لم يبتذل موضوعه كي يجعله ملائماً للذائقة الجماهيرية ولمحبي مستوى التلقي الأول.

ما سبق تأسيس ضروري للحديث عن "قدرات غير عادية"، فيلم داود عبد السيد الطويل التاسع، والمعروض حالياً في الصالات المصرية بعد انتظار حوالي عام منذ عرضه العالمي الأول في مهرجان دبي السينمائي الدولي نسخة ديسمبر ٢٠١٤. ليكون موسم الشتاء هو الموعد الأفضل ربما لعرض فيلم لا يغازل شباك التذاكر أو يحاول استمالة الجمهور العام شكلاً أو مضموناً، فيلم يلتزم مخرجه ومؤلفه بخيارات السرد المتاحة طبقاً للموضوع، حتى لو كانت النتيجة أكثر ذهنية من أن توصف بسهولة التلقي.

يحيى لثالث مرة

بطل الحكاية هو يحيى المنقبادي (خالد أبو النجا)، الطبيب الباحث عن أصحاب القدرات الخارقة للطبيعة الذي يحمل نفس الاسم الثنائي الضابط تاجر المخدرات بطل "أرض الخوف"، ونفس الاسم الأول للطبيب الذي تحوّل صياداً في "رسائل البحر". هناك دلالة ما؟ بالطبع، لكن المقصود ليس أنها نفس الشخصية أو حتى نفس بناءها النفسي والاجتماعي كما نجد مثلاً في شخصية "فارس" المتكررة في ثلاثية لمحمد خان. ما يمكنه استقاءه من وحدة اسم البطل في الأفلام الثلاثة هو كونه بشكل ما اسم صفري، اسم دلالته تساوي في ذهن داود عبد السيد كلمة "البطل". وهو ما أكده في حوار روى فيه أنه كان في بداية حياته يطلق على شخصيته الرئيسية اسم "يوسف"، حتى أنجب ابنه وسمّاه يوسفًا، فصار للاسم رباطًا شخصيًا جعله ينتقل إلى يحيى البطل الباحث.

الجامع بين الثلاثة أبطال أصحاب نفس الاسم هو ثنائية البحث والتيه، يحيى الأول يترك حياة آمنة ليبدأ من نقطة تحت الصفر في عالم المخدرات المليئ بالأخطار، يحيى الثاني يترك العاصمة ليفتش عن حياة جديدة ومهنة أخرى يجد فيهما تصالحه مع العالم، ويحيى "قدرات غير عادية" يترك هو الآخر المدينة ويلجأ إلى بنسيون منعزل على أطراف الإسكندرية ليطارد بحثاً يبدو يائساً عديم الجدوى. ثلاثتهم باحثون عن إنجاز ما، تحقق يشبع ذواتهم قبل أن يحقق هدفه الظاهري، وثلاثتهم يضيعون في منتصف الطريق، يشعرون بالعزلة ولو كانوا وسط المئات، يحاولون الوصول لمرفأ للروح يطمأنهم بأن حياتهم لم تضع سدى. بتفكير بسيط وباستيعاب لصفرية الاسم التي ذكرناها، لا نحتاج لكثير من العبقرية لنقول أن الأعمال الثلاثة تشكل في مجملها تنويعات داودية لرحلة الإنسان في العالم، وبحثه الدؤوب عن التحقق والتصالح والإنجاز.

تصاعد في الجوهر
الإطار الواسع للحكايات الثلاثة إذن واحد حتى لو اختلفت التفاصيل والأماكن، لكن في كل مرة يتصاعد جوهر رحلة البحث ويأخذ منحى أكثر تجريداً. ففي "أرض الخوف" يحيى يبحث عن الإنجاز، عن عمل يسهم من خلاله في جعل العالم مكاناً أفضل، بحث رومانسي وإن دار بين طلقات الرصاص وصفقات المخدرات، ينتهي بما يتطابق مع ما كتبه لورنس داريل قبل عقود حين قال "ربما كانت أشد الأوهام رقة وفجيعة هي الإيمان بأن أفعالنا يمكن أن تضيف أو تنقص من القدر الكلي للخير والشر في العالم". فحياة يحيى لم تُغير من العالم وإن غيرت من ذاته، فجعلته يعيد النظر في تقييمه للونين الأبيض والأسود، ليكتشف أن حياته في أرض الخوف ربما كانت أمتع من حياة المعصومين.

من هنا ينطلق يحيى "رسائل البحر" الذي يبحث عن أرض خوفه، مواجهاً ثوابت مجتمعية تبدو منطقية على خواءها: طبيب يترك مهنة مرموقة كي يصير صيّاداً، ومالك يرفض ثروة من أجل حفنة ذكريات، وعاشق يجد مرفأه لدى امرأة يحسبها عاهرة. يحيى هنا تجاوز فكرة تحقيق الإنجاز (وهي فكرة خارجية بطبيعتها منحت الفيلم الأول إثارته الجماهيرية) وصار يفتش عن سلامه النفسي لا أكثر، عن مساحة يحلم بامتلاكها في عالم لم يعد يسمح بأي شبهة اختلاف.

نصل إلى يحيى الأحدث، الطبيب الباحث عن الـ"قدرات غير عادية"، وترجمتها في تفسيري هي الموهبة، القدرة رفض الاعتيادية التي قهرت يحيى الثاني وحبيبته، وخلق لحظات من النشوة قد تكون سبباً كافياً لتجاوز كآبة الحياة. يحيى هنا مشكلته التي يقولها بوضوح في الفيلم أنه "عادي جداً"، لذا قرر أن يكرس حياته بحثاً عن الخارقين للمألوف، ربما كما يقضي الناقد عمره مفتشاً عن الفنانين الموهوبين مفسراً أعمالهم، التي يعلم في قرارة نفسه أنه غير قادر على محاكاتها وإن كان أكثر إلماماً بالقواعد. هل أنا قادر على الخلق والإبداع؟ هل هناك فعلاً من يفعلون ذلك أم هي مجرد ضلالات؟ أم أن الجميع بإمكانهم الإبداع لكنهم لا يدركون؟ هذه هي الطروحات المحركة لأفعال يحيى وللفيلم بأكمله.

الموهوبون في الأرض

يحيى يؤمن بأنه عادي لا يحمل أي فرادة، ويفتش حتى يعثر على الفتاة الموهوبة فريدة (مريم تامر في أفضل أداء لطفلة شهدته السينما المصرية منذ سنوات)، يظن أنه وجد ضالته دون أن يعلم أن هناك عقبتين ضخمتين أمامه: السلطة واليقين.

السلطة ـ كما في كل أفلام المخرج الكبير، وفي الواقع ربما ـ عدو أبدي لكل ما هو مختلف، تسعد بالاعتياديين وتأمن شرهم، وتضع كل من يُظهر بادرة موهبة تحت المجهر، فإما أن يصير ترساً في آلتها تستخدمه كسلاح لفرض السطوة كما يفعل رجل الأمن بالطفلة فريدة، أو أن يتحوّل مطارداً مطلوباً، يعيش في تهديد مستمر ويخفي اختلافه الذي يميزه، عشرات الصراعات الرقابية التي واجهها مبدعون من أجل إظهار قدراتهم غير العادية تشهد بصحة تلك العقبة.

العقبة الثانية هي الأقسى، فالأمور فيها ليست بهذا الوضوح نظراً لكون الخصم فيها هو الحكم والمُدعي معاً، هي باختصار صراع الموهوب مع ذاته، والغياب الدائم لليقين في امتلاكه ذلك الشيء الذي يسميه عبد السيد "قدرات غير عادية" ونسميه نحن الموهبة. يحيى يتيه في مفارقة ذهنية: من هو الموهوب صاحب القدرة؟ ومن كان مجرد انعكاس لفرادة الآخر؟

هي معادلة يصعب العثور على إجابة شافية لها، فالإبداع لا يأت من العدم وإن احتاج موهبة، والآخر جزء من العمل الإبداعي حتى لو كان مجرد تحريك بعض الأشياء، وعندما طارت التفاحة وحدها لتسقط أرضاً كان هذا حدثاً يحتاج شخصين على الأقل: واحد يستخدم قدرته وآخر يعطيها شهادة الدهشة، وغياب أي منهما يعني ببساطة أن شيئاً لم يكن. لهذا يخرج الفيلم بإجابة تصالحية حول امتلاك الجميع لـ"قدرات غير عادية" ، والقصد في تفسيري ليس في كون الجميع موهوبين أو مختلفين ـ وإن كانت هذه قراءة ممكنة ـ وإنما في ضرورة تواجد كل الأطراف كي يقع السحر.

لاحظ أن جوهر كل فيلم في الثلاثة أكثر باطنية مما سبقه، بصورة تبلغ أوجها في "قدرات غير عادية" ذي الطابع الذهني الخالص، فحتى صراعاته ذات المظهر الخارجي مع السلطة مثلاً، لا ينخرط المخرج في تحليلها الذي خاصه كثيراً في أعماله السابقة ـ راجع "البحث عن سيد مرزوق" و"مواطن ومخبر وحرامي" ـ بل يأخذها كأمر مسلم به مفضلاً الانشغال في التبعات النفسية، بصورة جعلت الفيلم أثقل فكرياً وأصعب في التلقي لمن لا يرتاح لهذا القدر من الذهنية.

بمنطق يحيى قد يعد البعض صعوبة التواصل تلك ضعفاً في الفيلم، ولكن بالنظرة الأعم لمسيرة داود عبد السيد وثلاثيته المذكورة، يبدو الفيلم فصلاً تكميلياً لابد من تحقيقه، ليتمم رحلة يحيى/ البطل/ الإنسان بحثاً عن مساحته في الحياة. وإن كانت القدرة غير العادية تحتاج شخصين على الأقل كي تتحقق، فـ"قدرات غير عادية" يمتلك جمهوراً أكثر بكثير من الواحد، وجدوا فيه ما يمسهم ويحرك مشاعرهم وأفكارهم، بغض النظر عن مستويات التلقي والعبارات سابقة التجهيز.

شاهد- الإعلان الدعائي لفيلم "قدرات غير عادية"