بإعلان الفائزين بجوائز مهرجان دبي السينمائي الثاني عشر يوم 16 ديسمبر الماضي، صار الفيلم التسجيلي المصري
الأمر يقودنا إلى سؤال أهم: ما الذي يميز الفيلم التسجيلي السينمائي عن التقرير أو الفيلم التلفزيوني؟ سؤال صار مطروحا بشكل دائم من اللحظة التي ذابت فيها الفروق بين كاميرا السينما وكاميرا التلفزيون، وصارت نفس المعدات والأساليب تستخدم في الوسيطين، بل نفس الموضوعات تتكرر هنا وهناك. بعض المهرجانات السينمائية تعرض أفلاماً صُنعت للتلفزيون وتحتفي بها، وبعضها بالفعل يستحق هذه الحفاوة، ما هو الفارق أو المعيار إذن؟ الأمر نسبي بالطبع، لكن لو كان هناك فارق واحد من وجهة نظر كاتب المقال، فمن الممكن أن نضع يدنا عليه من خلال فيلم "أبدًا لم نكن أطفالا".
الفرق الرئيسي هو الدأب والمثابرة، والاستعداد لقضاء أطول وقت ممكن مع الشخصيات، ليس لأن ذلك يعطي المخرج مساحة أكبر لرصد أحداث تثري فيلمه فحسب، ولا حتى لأن ذلك يبني جسراً من الثقة بين أبطال الفيلم والرجل الغريب الذي يدخل عالمهم حاملاً جهازاً يرصد أفعالهم، ولكن لأن الوقت يسمح لكاميرا السينما أن تقوم بالفعل بما يمليه المصطلح: أن "تُسجل" الوقائع لا أن تسترجعها، أن تعطي المخرج مادة حيّة تم تصويرها بشكل تلقائي، ودون التفكير في بناء الفيلم وما يجب تصويره لاستكمال هذا البناء كما يتم عادة تشكيل الفيلم التلفزيوني.
حكاية الثلاثة عشر عامًا
محمود سليمان يمنح نفسه وشخصياته كل الوقت اللازم لتحقيق ما سبق، لا يتعجل إنهاء فيلمه، بل يظل لأكثر من عقد يراقب ويرصد ويسجل، ويمنح بطلته وأبناءها الأربعة الزمن الكافي لامتلاك دراما تحركها الحياة، ويكفي أنه يبدأ أول تسجيل مع السيدة خلال عام ٢٠٠٣ عندما كانت قد انفصلت للتو عن زوجها مدمن الكحول العاطل الذي حوّل حياتها جحيماً وأجبر أبناءها الأربعة الصغار على ترك التعليم، ويستمر في رصد حياة الأسرة حتى العام الحالي ٢٠١٥.
ثلاثة عشر عاماً أحدثت في الأسرة تغييرات جذرية، وتركت في نفوسهم آثاراً غير قابلة للمحو، ناهيك بالطبع عما فعلته نفس السنوات في البلد كله، حتى صار من الممكن أن نرى بأعيننا أشخاصاً مختلفين تماماً يعيشون في مكان وظروف مختلفة كلياً على نفس الشريط الفيلمي، فيخوض المشاهد مع ما يراه رحلة في عقدٍ أحدث فروقاً في كل شيء، إلا في حجم المعاناة التي يلاقيها فقراء مصر، ومن بينهم الشخصيات الخمس الثرية التي نتابعها في "أبدًا لم نكن أطفالا".
امرأة مختلفة ومستقبل مؤلم
السيدة بطلة الفيلم هي أول نقاط جاذبيته، بما تمثله من صورة مختلفة عن الشكل النمطي للمرأة المصرية الفقيرة، البسيطة في تفكيرها ولغتها وتقييمها للأمور. على العكس نجد هذه السيدة راجحة العقل، منضبطة الحديث، تجيد تقييم موقفها ورصد الأسباب التي أدت إليه، تتحدث عن مشاعرها بطلاقة وبقدر من العقلانية، وتجعلك في كل لحظة تؤمن بأنها كان من الممكن أن تعيش حياة مختلفة كلياً لو لم تأت للعالم يدفعها دفعاً نحو مصيرها المؤلم.
إجبارها على الزواج وهي طفلة من رجل عجوز يعذبها عاماً ثم يتركها، ثم زواج آخر من سكير ينجب أربعة أطفال كي يعملوا وينفقوا عليه، ودائرة لا تتوقف من العمل الشاق من أجل جنيهات تُسير بهم الحياة. الأكثر إيلاماً هو أن المستقبل يبدو أسوأ، أبناءها الأربعة ورغم علاقة الحب التي يبنيها الفيلم معهم بمتابعتهم من الطفولة للشباب، هم أقل منها في كل شيء، في العقل وطريقة الحديث والحكم على الأمور وقبل كل ذلك الفرص في الحياة، ولعل حديث الابن الأكبر خليل الذي يعمل في ثلاث مهن تتحطم فيها أحلامه يومياً: سايس سيارات يعلم أنه لن يمتلك أبدًا سيارة تخصه، عامل بناء يرفع المباني ويحلم ولو بكوخ يسكنه، وزفّاف يحيي الأفراح دون أمل في أن يتزوج يوماً.
رغم كل معاناتها كي تحمي أبناءها من والدهم وتدفهم للعيش بشرف، رغم كفاحها الذي يرصده الفيلم فعلاً على مدار سنوات، تعترف بطلتنا في لحظة مصارحة مؤلمة بفشلها في كل ما سعت إليه، فشلها حتى في أن تحمي ابنتها الوحيدة من الزواج المبكر الذي دمّر حياتها، لكنه مرة أخرى يكون أفضل الحلول السيئة لأسرة لم تعرف يوماً الاختيار الحر.
القدر يكافئ المخرج
أما أكثر حكايات الفيلم ثراءً واختلافاً فهي قصة الابن الثاني نور، والذي تظهر عليه دلائل الميول المثلية بما يتسبب في خلاف ضخم بينه وبين شقيقه الأكبر، بينما تحاول الأم بشتى الطرق أن تنفي التهمة التي تشين ابنها في عالمهم، والتي تمثل بالنسبة لها شكلاً آخر لفشلها في مهمة عمرها.
حكاية كهذه هي وليدة الدأب وحده، يكافئ بها القدر المخرج لتقديم حالة يكاد يستحيل على أي مخرج مصري آخر أن يتعرض لها بمثل هذا الانفتاح، فسواء أراد مخرج أن يصور شخصية نور في طفولته أو مراهقته أو شبابه، فلن يمكنه أن يقترب ولو قليلاً مما عرضه محمود سليمان عنه، فقط لأنه امتلك الإصرار الكافي لإنماء صداقة سنوات مع شخصياته، حتى صار من ذكريات طفولة أحدهم الوجبات التي كان يأكلها في استراحة التصوير عندما كان المخرج يصور مع والدته قديماً.
اعتراف ختامي شجاع
الدأب التسجيلي والعلاقة الصادقة بالشخصيات والبناء السردي والبصري المتصاعد للفيلم ليست كل أسباب احترام صانعه، بل أن على رأس هذه الأسباب يأتي المشهد الختامي الذي يعرض محمود سليمان فيه مكالمة يجريها معه الابن الأكبر خليل، مكالمة نفهم منها أن خليل قد تحدث من رقم غريب كي يصل للمخرج، ليشتكي له وضعه السيء وعدم عثوره على عمل، فلا يملك سليمان أكثر من إبداء التعاطف ووعد خليل بأن يتصل لمعرفة أخباره ووالدته.
هذا هو الاعتراف الأكثر شجاعة من صانع الفيلم، أنه رغم كل شيء عاجز عن تقديم عون حقيقي لمن يعلم يقينًا بمدى حاجتهم. قام برصد حياتهم ونقلها بصدق في فيلم، لكنه سيكمل حياته ويبدأ العمل على مشروع جديد، بينما يكملون هم حياتهم العسيرة التي تصير في كل يوم أتعس من سابقه.
نرشح لكم
"نوّارة".. أول فيلم مصري عن الثورة لا صورتها الذهنية
"قبل زحمة الصيف".. تجربة نادرة في سينما محمد خان
""في سيرة الماء.. والنخل.. والأهل".. تراث الإمارات في فيلم
فيلم افتتاح مهرجان دبي السينمائي: "غرفة".. ثلاث حكايات وثلاث نقاط تميز
طالع أيضا
اختر أفضل وأسوأ إطلالات النجمات في افتتاح مهرجان دبي السينمائي الدولي
باسم يوسف ولميس "التركية" وأبلة فاهيتا في افتتاح مهرجان دبي السينمائي 2015
مهرجان دبي السينيمائي يعلن أعضاء لجان تحكيم مسابقات "المهر" في الدورة الـ 12
الممثلة الفرنسية كاترين دونوف تتسلّم جائزة "تكريم إنجازات الفنانين" من "مهرجان دبي السينمائي الدولي"
"قبل زحمة الصيف".. محمد خان يعود إلى مهرجان دبي السينمائي الدولي
تعرف على تفاصيل مهرجان دبي السينمائي الدولي 2015 قبل انطلاقه.. أبرز أفلامه والنجوم الحاضرين
آخر أفلام عمر الشريف يُعرض للمرة الأولى عالميا في مهرجان دبي السينمائي 2015