كمواطنة تعيش في مدينة مزدحمة كالقاهرة، أقضي ساعات وأنا أقود السيارة، وفي هذه الأثناء يضطرني القدر كثيرا إلى الاستماع إلى إذاعات الراديو، التي تمتلئ بمسببات التلوث السمعي، ولا أقصد فقط بعض الأغاني فالموسيقى والأغاني يخضعان للذوق، ولكن قصدي هم المذيعون وحماقاتهم.
فالمذيعون بعيدا عن الأخطاء التي قد ترد بخاطرك سواء كانت لغوية مثلا أو متعلقة بالأداء الصوتي، صاروا يرتكبون حماقات أبعد وأكبر من ذلك بكثير.
الجريمة الأولى
مثلا حينما أسمع "مذيعة" تقول بمنتهى البساطة: "في مسدج جايالنا من رقم آخره 752 بتقول ان في قنبلة عند أول الدائري من ناحية ميدان لبنان، ياريت حد يأكد أو ينفي" ... !!!!!!!!!!!
علامات تعجب إلى ما لا نهاية، ما هذا؟!! كصحفية أعرف فنا اسمه صحافة المواطن، لكن صحافة المواطن هذه لابد أن تعتمد على شيء موثق، مثلا فيديو أو صورة، وتظل غير قابلة للتأكيد، وتنشر على مسؤولية مرسلها، وهذا يستخدم في حالات محدودة جدا، حال لم تتوفر للوسيلة الإعلامية طريقة للتأكد من الوقعة، مثلا لأنها حدثت وانتهت ولا يمكن الوصول لشهود آخرين أو مصادر رسمية، أما في هذه الحالة فأنت تشاركين في صنع شائعة عبر وسيلة إعلامية يسمعها ملايين.
بل إن إحدى المذيعات على محطة للأغاني الشبابية الرائجة قالت نصا وهي تطلب من المستمعين المشاركة بشهادتهم حول الحالة المرورية، "ولو مثلا حد عايز يعمل مقلب في حد وعايزه يروح مكان معين..." وكانت على وشك الإكمال قبل أن يوقفها زميلها المذيع قائلا "لا لا لا أرجوكي مصداقية البرنامج" وكان واضحا جدا أنها كانت على وشك أن تقول أنه على هذا الشخص يمكنه على سبيل المزاح أن يرسل رسالة يقول فيها أن مكانا يتمتع بسيولة مرورية وهو على العكس تماما، فهي تدعو هذا الشخص لأن يبعث بآلاف الأشخاص لمكان مزدحم على سبيل المزاح، هنا يأتي السؤال الأهم، من أنت؟!! ومن أتى بك إلى هذا المقعد أمام الميكروفون!!!
هذا النوع من المذيعين يوفر على أي من كان يريد نشر شائعة من أي نوع لأي غرض الذين هم دورهم أصلا العكس تماما، فعليهم كإعلاميين التأكد من المعلومة، لإيصال المعلومة الصحيحة والدقيقة والمفيدة، وإذا كانت الحجة هنا أن هذه وسيلة إعلامية للترفيه، وليست إخبارية، إذن فأرجوك أن تحتفظ بدورك الترفيهي، ولا تقحم نفسك في عالم الخدمة الخبرية، الذي له قواعد وأصول.
الجريمة الثانية
من الجميل واللطيف جدا أن تقترب من المستمع حد أنه يشعر أنك صديقه، ولكن ليس من الجميل على الإطلاق أن تنخرط أنت وزميلك في تقديم البرنامج في حوارات شخصية تماما، وتظلان تضحكان على مواقف حدثت قبل ذلك في الغالب لا يفهمها الجمهور فهي لم تحدث على الهواء وإنما في حياتكما الشخصية، أنت هنا لتسلية الجمهور وليس لتقضية وقت ممتع مع صديقك في استعادة الذكريات.
وقد يصل الأمر أن تنقلب الحلقة بالكامل إلى حالة من الضحك الهستيري، بينه كلمات متناثرة غير مفهومة.
أو حتى يظل يسخر المذيعان من بعضهما البعض أو من أدائهما على الهواء، على أساس أن هذه المادة مسلية، في الغالب أنت تفهم التسلية بشكل خاطئ، فحتى المحتوى المسلي، يحتاج إلى بعض المجهود.
أنا أذكر أن إحدى المذيعات التي تقدم برنامجا صباحيا، ظللت أسمعها لأسابيع، فلا أسمع كل يوم سوى أنها بين الأغنيات تضحك على تعليقات الجمهور وتدعوهم للفرفشة والتفاؤل ثم تقول "أيوة بقى" وتشغل إحدى الأغنيات، كنت أتابعها لأن اختياراتها في الأغاني كانت تناسبني، لكنني مع ذلك لم أتحمل المزيد من هذا اللاشيء الذي تقوله في كل صباح، ومن ثم توقفت عن سماعها.
الجريمة الثالثة
يحاول أحد المستمعين الاتصال بالبرنامج والمذيعين الذين يحبهم لمشاركتهم بعض الدقائق على الهواء، وليعبر لهما كم يحبهما، فيجدهما ينخرطا في حديث سويا وقد نسياه تماما، هذا الموقف متكرر بشكل مستفز، بل زد على ذلك أنهما قد يسخران منه أو من طريقته في الكلام، ويتضاحكان على الهواء، وكأنه شيء مسل لبقية المستمعين.
أو على نفس المنوال، يسخر المذيعان من معظم من يرسل لهما برسائل نصية أو تعليقات، وكأن لا أحد يعجبهم سوى أنفسهم، وكأن المستمعين مسخرين لهم كمادة للضحك، وليس هم الذي عليهم تسلية الجمهور.
الجريمة الرابعة
وهي خطيئة خاصة بالنجوم وكبار المذيعين، الذين من فرط ما صاروا واثقين بقدرتهم على التعامل مع الهواء، لم يعودوا يعيروه الاهتمام الكافي، والانتباه المطلوب لهذه المسؤولية، فالثانية الواحدة على الهواء بعشر أمثالها في أي وقت، هؤلاء النجوم قد يفقدون تركيزهم لدقائق، ولأنك لا تراهم لا تعرف أين ذهب انتباههم، ولكنك تلاحظ بوضوح أنهم "سرحانين" وأنهم يرصون كلمات بجوار بعضها ليس لها معنى، ويستمر هذا لوقت يكفي لأن تمل وتضجر وتغير المحطة، فهم بذلك يخسرون التاريخ الذي صنعوه، وللعلم هما نجمان إذاعيان من يقعان في هذه الجريمة التي لا تغتفر.
أو في حالات أخرى مثلا، وهناك نجم بعينه يفعل هذا، يقرأ السكريبت الموضوع أمامه دون أي فهم، وربما يكون لم يره قبل تسجيل الحلقة أصلا، ويتضح هذا جدا حينما يقرأ كلمة بشكل خاطئ يجعلها خارج السياق تماما، ولا يراجع نفسه.
أنا كمستمعة، وليس كإحدى العاملين بالصحافة والإعلام، أقول نيابة عن كل من يوافقني الرأي، أن هذه الدقائق التي تمنحونها على الهواء هي من أقيم الدقائق على الكرة الأرضية، وليست ممنوحة لكم لتمارسوا فيها رغيكم الفاضي الذي تمارسونه في أي مكان، وإنما لتضيفوا إلى معرفتنا وإدراكنا، وتهونون علينا الوقت الذي نقضيه في زحام المرور الذي لا يحتمل.