عمرو شاهين
عمرو شاهين تاريخ النشر: الجمعة، 25 سبتمبر، 2015 | آخر تحديث:
نجاح الموجي

قدم الراحل نجاح الموجي 134 عمل فني بين السينما والمسرح والتلفزيون، تخللها العديد من محاولات التمرد على القوالب التي حاول المنتجين والمخرجين أن يحصروه فيها، ولكن اتسم أغلبها بالطابع الكوميدي، ليصبح واحدا من أهم كوميديانات الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، ولكن بين كل تلك الكوميديا، سواء الاستهلاكية منها أو غير الاستهلاكية كانت هناك أدوار أفردت المساحة لموهبة نجاح الموجي في الخروج ليفاجئنا ويمتعنا، والتي نلقي الضوء عليها في ذكرى رحيله في 25 سبتمبر.

"الحريف".. هذه الملامح المرهقة تستطيع أن تكذب
في سنة 1983، قدم المخرج محمد خان أحد أهم أفلامه "الحريف"، وهو من تأليفه مع بشير الديك، والذي كان أحد الصدمات القوية التي تلقتها السينما المصرية في ذلك التوقيت بسبب تمرده على كل القوالب، فالفيلم يمكن اعتباره نواة حقيقية لما أطلق عليه بعد ذلك السينما المستقلة، إذ أنه تم إنتاجه بالجهود الذاتية لعدد من صناعه، وعلى رأسهم نادية شكري ومحمد خان، واللذان أسسا شركة أفلام "الصحبة" كي تنتج هذا الفيلم.

كما أن الفيلم قدم عادل إمام بشكل جديد ومختلف عما كان متعارف عليه في السينما وقتها، أما المفاجاة الحقيقية فهي تقديم الكوميديان الذي أصبح معروفا في ذلك الوقت نجاح الموجي لدور بعيد كل البعد عن الكوميديا، ليصبح الفيلم سلسلة من المفاجآت السينمائية الممتعة، والمحطمة لكل قوالب السينما وقتها.

وقدم نجاح الموجي في الفيلم دور "عبد الله" جار "فارس" الذي يعاني من الفقر الشديد، الأمر الذي يدفعه لارتكاب جريمة قتل، والذي يقدم الموجي من خلاله واحدة من أجمل الملاحم التمثيلية، خصوصا في ظل اعتماده الكبير على انفعالات وجهه، التي توضح ما تعانيه الشخصية طوال الفيلم، فلا يمكن أن تنسى ملامحه بعدما خرج هو و"فارس" من السجن، أو مشهده الأخير بعدما يحتجر أسرته وأطفاله في محاولة للهروب من قبضه الشرطة، والذي ينتهي بقفزه من فوق السطح، لتخرج من الفيلم متذكرا ذلك الأداء السلس والبسيط للممثل النحيف مصري الملامح نجاح الموجي، لتتسائل متعجبا: "أين أخفى نجاح الموجي كل تلك الطاقة المبدعة لتقديم أدوار معقدة منذ بدايته مع "ثلاثي أضواء المسرح" في سنة 1967؟".

نجاح الموجي في فيلم "الحريف"

يقرر نجاح الموجي في "الحريف" أن يضعك في موقف محير، وهو نفس الموقف الذي وقف فيه "فارس" من جاره "عبد الله"؛ هل تتعاطف معه بسبب حاجته وفقره والظروف التي حوّلته من أحد المهمشين الذين يعيشون فوق أسطح العمارات إلى قاتل، بل وقاتل كاذب يستطيع خداع صديقه ورجال الشرطة، أم ترفضه لارتكابه الجريمة، بل ومحاولته اليائسة في الهروب بترويع زوجته وأطفاله؟ في الحقيقة أنت لا تخرج بموقف واضح ضد أو مع "عبد الله"، فهو قاتل وضحية، وبعيدا عن كل هذا الارتباك أمام شخصية "عبد الله" فأنت لا يمكنك أن تخرج من الفيلم بدون أن تصيبك الدهشة من قدرة نجاح الموجي على أداء هذه الشخصية.

"الهرم" الذي استعمانا جميعا
مرة أخرى دور من الأدوار التي تحتاج إلى خبير مفرقعات يتصدى له نجاح الموجي بجدارة في "رائعة" المخرج داوود عبدالسيد "الكيت كات"، والتي عُرضت في سنة 1991، عن قصه لإبراهيم أصلان، وسيناريو وحوار داوود عبد السيد.

في حارة في الكيت كات تدور أحداث الفيلم، ليكشف عن أوجه أخرى من إنسانية مغايرة، ولتجد به أيضا شخصية مثل "الهرم" تاجر المخدرات ذو السلطة والسطوة الشكلية، والتي يمارسها على أبناء الحارة، لتبدأ في كرهه ومبادلته العداء، لأنه يستغل كل ومن حوله في شهوانية واستغلالية واضحة، ولكن طوال الفيلم يستعمانا "الهرم"، الذي يحفظ بداخله سر آخر عن نفسه لا يفصح به إلا في مشهد وحيد، عندما يرد الجميل للشيخ حسني "محمود عبدالعزيز"، بأن يلبي طلبه بإقراضه المبلغ الذي طلبه منه بعدما زاره في السجن، هل "الهرم" فعلا بكل هذه الإنسانية المستترة تحت غطاء هش من السلطة والشر المبرر؟

نجاح الموجي في شخصية "الهرم" في فيلم "الكيت كات"

لماذا يحتاج دور "الهرم" إلى خبير مفرقعات؟ لأنه ببساطة في فيلم بهذه الإنسانية والتركيبة المربكة والعلاقات المتشابكة والمتقاطعة، والتي تدور في إطار من الهدوء الظاهري والانفعالات الداخلية لا يمكن أن تقع شخصية في فخ المبالغة، والأداء التقليدي المحفوظ لتاجر المخدرات، لا من حيث الشكل أو من حيث الأداء، كان لابد أن يكون "الهرم" ممثلا بداخل الفيلم ليخفي إنسانيته، لذلك كان لابد أن يكون نجاح الموجي قادرا على أن يمثل الشخصية التي تمثل على الجميع، دون أن تفقد اتزانها طوال أحداث الفيلم.

"ليه يا بنفسج".. الموجي يكتسح
في قمة نجوميته وبعدما أصبح أحد أبطال المسرح المصري الكوميدي، وقدم عدد من العروض من بطولته، يقدم نجاح الموجي مفاجاة جديدة عندما تعاون مع المخرج الراحل رضوان الكاشف في أول أفلامه "ليه يا بنفسج"، والذي عُرض في سنة 1993، وكتبه سامي السيوي ورضوان الكاشف، ويشارك في بطولته فاروق الفيشاوي، وأشرف عبدالباقي، ولوسي، وحسن حسني.

نجاح الموجي هنا أمام مساحة كبيرة يُخرج فيها طاقته كممثل قادر على أن يؤدي الأدوار الصعبة بكل جدارة، فقدم شخصية "عباس" الصديق الثالث لـ "أحمد" و"سيد"، وبين رمزيات متبادلة بين الثلاثة يقدم عباس رمزية للاحتياج والكبت وعدم القدرة على المقاومة، وهو الأمر الذي ربما تجده عند سيد وعند أحمد، ولكنه غير موجود عند عباس، فالأخير ليس لصا يسرق قوت يوم أصدقائه ويهرب، وليس بخائن يتركهم نيام ليحاول سرقه مصدر رزقهم، كل ما في الأمر أن عباس في حاجة فقط، وعليه أن يلبى ذلك الاحتياج، فإن كنت قادرا على أن تتسلق الجبل عكسي، فإن هذا لا ينتقص مني في شيء، لأنك مثلي تخطئ، ولكنه خطا من نوع آخر.

ربما تكمن صعوبة شخصية "عباس" على أنك طوال الفيلم تؤدي مشاهد ترسخ أنك شخص شرير وسيء، وربما هذا يجعل التعاطف معه مستحيل، ولكن كان المطلوب أن يتعاطف المتلقي مع الثلاثة أصدقاء، بكل ما يحملون من عيوب ونقائص وإنسانية مغايرة، لما هو متعارف عليه في الدراما التقليدية.

التحدي الآخر كان أن شخصية "عباس" تحتاج بالفعل ولمرة أخرى إلى "خبير مفرقعات"، لا إلى ممثل عادي أو حتى ممثل موهوب، بل هي بحاجة إلى ممثل موهوب يستطيع أن يكبح جماح تلك الشخصية حتى لا تنجرف به إلى فخ الاصطناع أو المبالغة، أو تنحرف به إلى فخ الاستسهال والانفعالات المعلبة، فكان الموجي هو الدواء الموصوف لتلك الشخصية، بقدرته على كبح جماحها والسيطرة عليها وعلى موهبته وتقديمها بهذا الشكل.

"سيد بص".. هل مازال البحر يضحك؟
في سنة 1995 قدم السيناريست والمخرج محمد كامل القليوبي فيلمه الأول "البحر بيضحك ليه"، والذي قدم نجاح الموجي في أحداثه شخصية "سيد بص" البورمجي والرفيق في رحلة إعادة استكشاف الإنسان التي يخوضها البطل حسين "محمود عبدالعزيز"، فهو واسع الحيلة الحازم في حلوله القادر على اتخاذ القرار، ليزرع شيئا فشيئا بعض من صفاته في نفس حسين، ويكون هو المكتشف الأول لهذا الإنسان الجديد.

الشخصية العنيدة والمشبعة بكل هذا القدر الإنساني تتحول من صانع إلى مرافق للشخصية، ثم تابع وناصح ومرشد وحكيم يقود حسين في رحلته، في جنبات عالم جديد يخشاه الجميع، يمتلئ بما يُطلق عليهم المجتمع بلطجية وعاهرات ونصابين، ليخرج لنا حسين وسيد ومن قبلهم القليوبي كنزا من إنسانية يفقدها المجتمع الذي حاكم وأدان تلك الطائفة، ليختتم "سيد" الفيلم بمشهد غاية في الروعة، بوقوفه على الشاطئ، وينظر إلى طائرة ورقية عالية وهو يصيح كالعادة "بص بص بص"، وكأنه يشير إلى روح حسين التي حلقت عاليا، ويشير إلى نفسه، فهو الصانع والمرشد الأول لتلك الشخصية، ليحرز الموجي هدفا آخر في قلوب الجماهير.