ظهوره على أفيش فيلم للمرة الأولى كان بمثابة انتصار لكل محبي أساطين الكوميديا، مرتديًا طاقية صفراء ونظارة سوداء وتعلو وجهه ابتسامته الطيبة التي طالما ميزته وكانت جواز سفره لقلوب جمهور اتفق على أن قنبلة الضحك يوسف عيد لم ينل من الدنيا ما يستحق، لم يكن يعلم أنها ستكون المرة الأولى والأخيرة التي نراه فيها على أفيش أي فيلم، الموت كان أسرع وأصدق من أحلامه وأحلام محبيه له بحياة رغدة بعد شقاء سنين.
وحيدًا بمنزله المتواضع بميدان الجيش بالقاهرة، عن عمر ناهز 66 عامًا منذ عام بالتمام يوم الأحد 21 سبتمبر 2014، أسلم روحه لبارئها إثر تعرضه لنوبة قلبية مفاجئة، لم تكن تلك النوبة القلبية مفاجئة بالمعنى الحرفي، فيوسف عيد ظل يعاني لسنوات من فيروس في العين سبب له ضعفًا في الرؤية وأجرى عمليات عديدة أرهقته كثيرًا على المستوى المادي، ما دفعه لمحاولة الحصول على فرصة العلاج على نفقة نقابة المهن التمثيلية، نصحه الأطباء بالبعد عن الإضاءة والأتربة -أي توقف عمله الفني- لكنه حرفيا كان يقتات من وراء ظهوره البسيط في أعمال متعددة.
يوسف عيد، ولد في حي الجمالية بالقاهرة في 15 نوفمبر عام 1948، حصل على الثانوية الأزهرية ولم يكمل تعليمه الجامعي، بدأ مسيرته الفنية بعمر 27 سنة بالظهور في فيلم "شقة في وسط البلد" عام 1975، ثم شارك في نفس العام الفنان محمد صبحي الظهور في مسرحية "انتهى الدرس يا غبي"، لتتوالى بعد ذلك أعماله التي بلغت 218 عملًا فنيا تنوعت ما بين أفلام ومسلسلات ومسرحيات وأداء صوتي ومسلسلات إذاعية.
في التراث الشعبي المصري يوجد مثل يقول إن "من جاور السعيد يسعد" بمعنى أن وجودك وسط الناجحين بالطبع سيجعل النجاح حليفًا لك، حالة يوسف عيد تكشف كذب هذا المثل تمامًا، فالفنان الذي وقف أمام كل نجوم الصف الأول على اختلاف الأجيال بداية من عادل إمام ومحمد صبحي وصلاح السعدني ومحمود عبد العزيز، وصولًا لجيل الشباب أحمد حلمي ومحمد هنيدي ومحمد سعد، ثم من هم أكثر حداثة منهم تامر حسني وكريم عبد العزيز، لم ينل يوسف عيد من السعد ما تستحقه موهبته، كان يراه المنتجون ممثلًا ذا طموح بسيط سيقنع بأي مساحة من الأدوار تعرض عليه.
ممثل باليومية
يكفي أن يعلم الجمهور أن يوسف عيد الذي جاوزت أعماله المائتي عمل فني، ظل طوال مشوار 40 سنة يتقاضى أجره عن أفلامه باليوم وليس بحجم الدور، يطلب منه المنتج أن يؤدي هذا المشهد فيأتي للتصوير ويؤدي مشهده كما يجب بأداء منقطع النظير لينتظر وسط المجاميع آخر اليوم لتقاضي أجره، حتى أن أكبر دور مساحة حصل عليه عيد وهو دور قاهر الظلام في فيلمه الأخير "عمر وسلوى"، وافق على أدائه باليوم قبل أن يعرف أن مساحة الدور أكبر بكثير من أن يؤديه باليوم الأمر الذي جعله يندم بعد ذلك على الموافقة على قبول هذا الدور الكبير بهذه الطريقة في الحساب.
شاهد- الإعلان الدعائي لفيلم "عمر وسلوى"
أسطى الموال
اشتهر "أبو ضحكة جنان" كما كان يحب أصدقاؤه تسميته بصوت عذب وحنجرة قوية تؤهله لأداء لون هو أصعب ألوان الغناء على الأطلاق وهو "الموال"، لا يمكن أن ينسى متابعو السينما العربية بشكل عام مواله في فيلم التجربة الدانماركية "يا حلوة ياللي العسل"، أو مونولوجه الأشهر في فيلم "يا مهلبية يا" مطلعتش ملك الذي اكتشف فيه موهبة استعراضية حين أدى عيد حركات استعراضية أثناء غنائه للمونولوج بشكل متقن، قال بعدها إن هذه الاستعراضات سببت له آلامًا مبرحة في الظهر.
شاهد- منولوج "مطلعتش ملك" من فيلم "يا مهلبية يا"
موال يوسف عيد من فيلم "بوبوس"
حنجرة يوسف عيد القوية جعلته يحلم بإعادة أمجاد موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب الذي ولد أيضًا في حي باب الشعرية غير بعيد عن الجمالية مسقط رأس يوسف عيد، إلا أن ملامح الأخير وقفت حائلًا دون حصوله على فرصة كبيرة تقدمه للجمهور كمغنِ، كان يجيد أداء أصعب الألحان ويلقي الموشحات لكن قسمات وجهه لم تصلح كجواز مرور في طريق الغناء.
وصف الكاتب والسيناريست بلال فضل، يوسف عيد في مقال ضمن سلسلة "الموهوبون في الأرض"، بأنه "شقيان، مجهد، مكدود، مرهق"، أول ما بدأ يخطو طريق الراحة مات، مؤكدًا أن عيد تعرض لظلم كبير على يد المنتجين الذين لا يرحبون حين يتم ترشيح ممثل متميز من المعروفين بأدائهم للأدوار الصغيرة لأداء دور كبير في العمل الفني، ويطلبوا أن يتم ترشيح اسم معروف للأدوار الكبيرة طالما أن الممثل الذي تعود على الأدوار الصغيرة سيوافق على أي دور يقدم له وهذا ما وضع يوسف عيد ضمن هذه الفئة طوال عمره.
ويحكي فضل أنه خلال اللقاء الأخير الذي جمعه بيوسف عيد، كان الهم مسيطرًا على الأخير فبرغم نجاحه في أداء دور بوب مارلي في فيلم "الحرب العالمية الثالثة"، إلا أن عيد كان مستاءً من أحواله بشكل عام ومكان سكنه المتواضع في ميدان الجيش، وبحسب فضل فإن عيد صارحه قائلًا: "انت عارف ساعات لما باركب تاكسي وأنا مروح من التصوير السواقين يفتكروني ساكن في التجمع الخامس وما يصدقوش إني ساكن في ميدان الجيش وبيفتكروني رايح أزور حد من قرايبي وبعد كده هاطلع على التجمع الخامس ولا ستة أكتوبر ويقعد السواق يقولي طيب أستناك لغاية ما تخلص، ما تقطعش برزقي مشوار للتجمع الخامس هيطلع لي منه حسنة جامدة، أقوله ما تطلع معايا تشوف عيلتي فوق في الشقة وأفتح لك الدولاب وتشوفني وأنا باغير هدومي عشان تتأكد إني ساكن هنا، الناس ياعيني فاهمين إني باخد فلوس بالهبل مش عارفين الشقا اللي الواحد فيه".
شاهد- الإعلان الدعائي لفيلم "الحرب العالمية الثالثة"
عيد أفيونة الجمهور
حزن كبير خيم على الجمهور على اختلاف أعماره بمجرد سماعه خبر وفاة يوسف عيد، لم يدرك الناس قيمة هذا الرجل إلا بعد رحيله، معروف عنه أنه لا يحب الظهور الإعلامي بكثرة ولو قابله أحد الشباب في الشارع وعرفه باسمه سيدخل ذلك السرور على قلبه كثيرًا، جملة واحدة كانت تصف يوسف عيد "موهوب ملوش حظ"، تحول بمرور الوقت وتعدد علاماته الفنية التي تشبه الومضات بأفيونة لدى الجمهور، إفيهاته معروفة أكثر من أسماء الأفلام -بحسب الفنان أحمد حلمي الذي نعاه مؤكدًا معلومة أن إفيه أضربك فين مفيش ف وشك مكان معروف لدى الناس أكثر من الفيلم "جعلتني مجرما".
يوسف عيد في فيلم "جعلتني مجرما"
كان يوسف عيد يتمنى بعد نجاحه الكبير وتعلق أذهان الجمهور بشخصية "زكريا الدرديري" في فيلم "الناظر"، أن تسند إليه أدوار أكبر مساحة من التي اعتاد على أدائها، لكنه عاد للظهور الوامض بعد ذلك خلال العقد الأول من الألفية الثالثة في أفلام منها "التجربة الدانماركية"، و"آسف على الإزعاج"، و"عيال حبيبة"، والعيال هربت"، و"رمضان مبروك أبو العلمين حمودة"، كلها أفلام حققت نجاحًا كبيرًا لم ينل منها يوسف عيد حظًا إلا أجره باليومية.
زكريا الدرديري من فيلم "الناظر"
تعاون يوسف عيد مع الثلاثي شيكو وأحمد فهمي وهشام ماجد في مسلسل "الرجل العناب" الذي عرض في رمضان 2013، أدى دور كبير نسبيًا "عم هيصة" مساحة الدور كانت كفيلة لأن يعلق في أذهان متابعي المسلسل ويجعلهم ينتظرون ظهوره استعدادًا لإفيه متقن يخرج ضحكاتهم، نجاح عيد في الدور جعل الثلاثي يستعينون به في شخصية بوب مارلي آخر نجاحات عيد قبل وفاته.
انبهار أحمد زكي بأدائه
يقول الكاتب والناقد الفني كمال رمزي في مقال نشر بجريدة الشروق 30 سبتمبر 2014، إن الفنان الراحل أحمد زكي أثناء تنفيذ مشهد في فيلم "اضحك الصورة تطلع حلوة" على كورنيش النيل أمام يوسف عيد تأخر في الرد على كلام الأخير وتوقف.
وفسر أحمد زكي ما حدث بأن طريقة أداء يوسف عيد، الخلابة، المباغتة، أخذته بعيدا عن التركيز، جعلته مشاهدًا بدلا من أن يكون مشاركا، مؤكدًا أن يوسف عيد، يملك طاقة فنية هائلة، فاجأته بشحنات انفعالية متغيرة، متوالية، انفجرت في وجهه.
رحل "البرنس الأعظم" بحسب وصف المخرج عمرو سلامة له، دون أن يتلقَ جوابًا لسؤاله الدنيا في موال "ليه مطلعتش ملك"، الإجابة كانت غير بعيده عن السؤال فتكملة الموال "هو أنا مشبهش ولا إيه" هي ما يجيبه على سؤاله ويرح قلبه، يوسف عيد لم يصبح ملكًا طوال حياته، لكن الموهوبين أمثاله ملوك بملايين الابتسامات التي كانوا سببًا في رسمها على شفاه جماهيرهم.