(1)
في حواري مع المخرج الكبير داود عبد السيد والمنشور في كتاب "داود عبد السيد.. محاورات أحمد شوقي"، سألت الأستاذ عن الفارق الذي يجده بين الوسط السينمائي حالياً، وما كان الوضع عليه عندما صنع فيلمه الأول في منتصف ثمانينيات القرن الماضي. توقعت أن يتحدث عن اختلاف المعدات أو ميزانيات الأفلام، أو نظام التوزيع أو أي شيء آخر تعتقد بديهيا أن يقيم صانع أفلام كبير السوق على أساسه.
مزيد من المعلومات عن كتاب "داود عبد السيد.. محاورات أحمد شوقي" عبر "جود ريدز"
لكن الأستاذ داود فاجئني بأن الفارق الجوهري يكمن في الممثلين وتحديدا نجوم الشباك. وشرح لي سر اعتباره أنهم سبب التغيير الرئيسي في شكل الصناعة. فنجوم شباك الثمانينيات أمثال نور الشريف وأحمد زكي ومحمود عبد العزيز كانوا يعلمون ـ وفقا لعبد السيد ـ أن الأفلام الفنية المغايرة التي يصنعها هو وأبناء جيله محمد خان وخيري بشارة وغيرهم، ليس هي الأفلام التي تحقق نجاحا ضخما في شباك التذاكر، ولا هي الأفلام التي تزيد من نجوميتهم وبالتالي من أجورهم.
لكنهم في المقابل كانوا يدركون جيدا أنها هي الأفلام التي يمكنهم فيها أن يجدوا دورا يستمتعوا بلعبه، يبرزون فيه موهبتهم الحقيقية وينتزعون به الجوائز والتقدير النقدي. وأن هذه القناعة التي جعلت داود يبدأ مشواره مع نور الشريف ومحمود عبد العزيز في "الصعاليك"، وخيري بشارة مع أحمد زكي في "العوامة 70" ومحمد خان وسمير سيف وعاطف الطيب مع نور الشريف أيضا في "ضربة شمس" و"دائرة الانتقام" و"سواق الأتوبيس"، أصبحت غائبة تماما عن نجوم شباك الألفية الثالثة، الذين يرفضون مجرد التفكير في فيلم من هذه النوعية، خوفا من أن يؤثر على شباك تذاكرهم وأجورهم المليونية، وبالتالي فإن عثور مخرج جديد على منتج يمول فيلمه بدون نجوم، صار هدفاً أصعب وفقا لرؤية المخرج الكبير، حتى لو كانت صناعة السينما قد أصبحت أيسر تقنياً.
إجابة داود عبد السيد فتحت ذهني لأمرين لا يجب التفكير في السينما بمعزل عنهما. الأول هو دور النجوم التاريخي في السينما المصرية، فأي شخص يحاول أن يدرس تاريخ هذه الصناعة ومراحل تطورها والعوامل المؤثرة فيها، يستحيل أن يقوم بذلك بشكل أكاديمي يتناول المخرجين والمنتجين فقط، لأن مساحة الاعتبارات الشخصية وثقل نجوم الشباك هي أمور منحت حرفيا فرصة التواجد للعديد من الموهوبين. والأمر الثاني هو ببساطة كون اسم نور الشريف هو القاسم المشترك في خطوات البداية لجيل كامل من المخرجين الموهوبين، حتى أنني اضطررت عند تفريغ الحوار أن أقلل من عدد الأمثلة التي تخصه، حتى لا يتحول مسار الإجابة من توضيح قيمة النجوم إلى الإشادة بنور الشريف!
***
(2)
بالأمس رحل نور عن عالمنا. وكعادة أيام الوداع الحزين تحولت صفحات موقع فيس بوك إلى جدارية للرثاء. رثاء تجده مع بعض الأشخاص مبالغا فيه يضفي عليهم هالة أسطورية دافعها الحزن أكثر من الإسهام الحقيقي، وينحو أحيان أخرى إلى الحميمية عندما يكون الراحل ممن يمتلكون صورة ذهنية خاصة في عقول جمهورهم. صور الحزن الإلكتروني صارت متنوعة يمكن ملاحظتها والمقارنة بينها، لكن رثاء نور الشريف أخذ شكلاً لا أعتقد أنه قد حدث من قبل.
من بين كل خمسة أشخاص كتبوا يرثون النجم الراحل، روى أربعة منهم موقفا حدث بينه وبين نور الشريف. مخرجون يحكون عن نصائحه لهم عندما كانوا مساعدي إخراج في أعماله، ممثلون يروون ظهورهم لأول مرة على شاشة حقيقية يعرفهم الناس من خلالها على يديه، صحفيون قالوا صراحة أنه من جلس معهم أمام شاشة وشريط فيديو ليشرح لهم كيفية مشاهدة فيلم دون أن يأخذ الممثل انتباهك وتركيزك. الكل بلا استثناء يجمع على كونه أستاذاً بحق. أستاذ لا يكتفي بامتلاك حصيلة من الثقافة والخبرة والحرفة يعمل على زيادتها يومياً، ولكن يسعى بكل جهده لتمرير هذه الحصيلة إلى من يأتي بعده.
الأمر لا يمكن فصله عن الحكاية الأولى، هذا رجل بلغ قمة النجومية لكنه لم يعش للحظة وهم أنه الأوحد والآخرين منافسيه، بل كان يعي تماما أنه حلقة من سلسال لا يجب أن ينتهي. أن نجوميته نتيجة لعقود من صناعة راسخة ونجوم محبوبين، وأن خلوده يكمن في قدر إسهامه في استمرار هذه الصناعة وتطورها، سواء كان هذا الإسهام بفيلم يموله ويقدم فيه مخرجا جديدا، أو مساحة يمنحها لوجه جديد كما حصل هو على مساحته قديما، أو مهارة تعلمها بالسنين ينقلها كي يستفيد بها من يأتي بعده.
***
(3)
"العار" و"جري الوحوش"، فيلمان من إخراج علي عبد الخالق وتأليف محمود أبو زيد تم إنتاجهما عامي 1982 و1987 بنفس الأبطال الأربعة: نور الشريف ومحمود عبد العزيز وحسين فهمي ونورا. على تترات "العار" يتصدر اسم نور الشريف الصورة، يليه على الترتيب حسين ثم محمود وأخيرا نورا، أما على تترات "جري الوحوش" فيتصدر اسما نور ومحمود في لوحة واحدة، ثم حسين ونورا في لوحة ثانية.
اختلاف الترتيب أمر مثير للانتباه في ظل ثبات كل الصناع الرئيسيين، وكل من يعرف سوق السينما المصري يعرف ما يثيره ترتيب أسماء النجوم على الأفيش والتتر من خلافات كارثية قد تؤدي لإفشال العمل، لاسيما عندما يكون الأمر متعلقا بفيلم يلعب بطولته ثلاثة نجوم شباك كل منهم بطل منفرد له جماهيرية وشعبية ضخمة. لكن هذا لم يحدث في الفيلمين ولا في أي عمل آخر شارك نور الشريف في بطولته طيلة مشواره الفني.
السبب؟ القاعدة البديهية التي وضعها وسار عليها طوال حياته: الأعلى أجراً يأتي أولاً. الأجر يحدده السوق والنجومية وحجم نجاح الأعمال السابقة، فلو كان حسين فهمي هو الأعلى أجراً الآن يتصدر اسمه التتر والأفيش، ولو تغير الوضع بعد أعوام وارتفعت شعبية ـ وبالتالي أجر ـ محمود عبد العزيز يصعد هو للصدارة، وإذا حصل شخصان على نفس الأجر يكتبان معها، وهكذا تسير الأمور بسلاسة ودون تعقيدات أو مشكلات.
الأمر قد يبدو بسيطا وبديهيا. لكن صدقني هو ليس كذلك مع الغالبية العظمى من النجوم. وهو يعكس بوضوح تقديس نور الشريف لقيمة الصناعة، كفعل احترافي منظم له قوانين وقواعد واضحة يجب أن يتبعها الجميع. صناعة يمثل فيها الجميع بما فيهم نور نفسه، تروساً في آلة ضخمة هدفها تقديم الفن وإسعاد الناس. آلة منحت نور الشريف جماهيرية ضخمة وحبا جارفا من الجميع، ومنحها هو عمره وصحته، موهبته وحرفته، ماله وخبرته وثقافته، فعاش عاشقا محبوبته الأولى هي السينما، ورحل جسده ليعيش أطول في عقولنا وخيالنا.
طالع أيضا
وفاة الممثل المصري نور الشريف عن عمر ناهز ٦٩ عاما
أصدقاء وتلاميذ الراحل نور الشريف ينعونه: "وداعا حبيبي دائما"
نور الشريف.. هل حقا تعرف "آخر الرجال المحترمين"؟
نور الشريف.. النجم "اللي قعد في البيت" بأمر الدولة
أطرف آراء نور الشريف في الفن والحياة والسياسة
5 تشابهات بين روبن ويليامز ونور الشريف
كيف ساعد عادل إمام صديقه نور الشريف في بدايته الفنية؟
بالفيديو- علاقة نور الشريف بالغناء والموسيقى
نور الشريف الجريء الذي قدم شخصية الملحد في 6 أفلام