تابعت التعليقات المختلفة على الفيديو المصور لمتسابق يغني في مسابقة فنية داخل حزب التجمع، مغني مهرجانات وفتاتين ترقصان بلدي حوله، والمسابقة تحمل اسم الفنان العظيم سيد درويش. وجدت أن التعليقات- بتنوعاتها- تحتاج إلى تعليق.
اقرأ أيضا لفيروز كراوية:
الموسيقى البديلة.. بديلة لإيه؟
هل غنّيت لوطنك اليوم؟
التعليقات أخذت مسارين؛ الأول كيف نقبل بتلك المهزلة على المستويين الفني والأخلاقي داخل أروقة حزب سياسي، وباسم فنان عظيم الشأن مثل سيد درويش. والمسار الثاني هو دفاعي ضد هذا الهجوم العنيف على فتاتين ترقصان، رقص مشابه تماما لما نراه جميعا في مناسباتنا وأفراحنا وبيوتنا، نستهجنه فقط عندما تتاح لنا فرصة التمسح بالأخلاق على السوشال ميديا كأحد أقنعة يحلو لنا أن نرتديها أمام آخرين، نعيش مثلهم ويعيشون مثلنا، ولكننا متفقون ضمنيا على الظهور بشخصية ناصحة وعظية متسلطة على وسائل التواصل الإجتماعي.
الملفت بالنسبة لي هنا هو تقييم المجتمع للمارسة الفنية نفسها.. من أين يأتي الفن؟ هذا المحور الذي يغيب دائما عن نقاشات مثل هذه. ممكن أن يطول النقاش حول الأخلاق والمسموح والممنوع داخل مجتمع ما، يحاول البعض- حسب توجهاتهم- رفع سقف الحرية التي يتمتع بها الأفراد، ويحاول آخرون خفضه، وهو جدل لا ينتهي ولكنه لا يتعلق في الحقيقة بالعملية الفنية كما يفهمها ويمارسها الفنانون أو العاملين بالحقل الفني- أو هكذا أفكر في المسألة-.
وهنا عليك أن تسأل نفسك كمشاهد أو مستمع، هل تتوقع أن يقدم لك الفن نسخة مما تمارسه في حياتك العادية؟ هل تجلس أمام التليفزيون أو تضع السماعات على أذنيك لتستمع أو تشاهد مقاطع شبيهة بما رأيته في الشارع أو مكان العمل أو المنزل؟ حوارا كحوارك مع أهلك؟ حبا كحبك لصديقتك أو زوجتك؟ ردود فعل شبيهة بردود فعلك أو ردود فعل من تعرفهم؟
ربما تجيبني فورا: بالطبع لا، أتوقع من الفن أن يأخذ خيالي لمناطق أخرى، وإلا صار رتيبا خالي من الإبداع، وصار ما يقدمه لحياتي ليس إضافة، فقط تنويعات على نفس اللحن.
وربما تجيبني: نعم، أتوقع أن يكون الفن معبرا عن الواقع، ينقل أزماته ومشاكله، ويواكب الأحداث الجارية ويكون "نبض الجماهير".
والخبر الذي ليس جديدا أن الإجابة بـ"نعم" و"لا" ليس بينهما أي تناقض، ولا يفترض أن يكون بينهما تناقض. فإذا اختار فنانون الإتجاه الأول؛ يخرجون بنا عن المشاهد والأحداث المتكررة، ويخطفون عقولنا نحو أفكار وأحاسيس جديدة، الصادم منها والمجنون والمختلف، فهو ذوق واتجاه. وإذا اختار فنانون آخرون نقل مشهد من الواقع إلى الشاشة أو إلى الأغنية، بأسلوب فني جذاب، وبرؤية نقدية لهذا الواقع تكشف زاوية جديدة للنظر لمشهد متكرر، فتوجهنا لسلوك مختلف أو تضفي على نظرتنا بعدا لم نفكر فيه من قبل، هو ذوق واتجاه آخر.
ولكن ماذا نحتاج حتى نتجاوز هذا التناقض الوهمي؟ ماذا نحتاج حتى ننظر للفن في كل الحالات كـ"فن"؟
نحتاج ربما أن نعيش كما عاش سيد درويش.
شاهد- فيلم تسجيلي يروي قصة حياة سيد درويش (إخراج مصطفى عبد الله)
لا يتسع المجال هنا لسرد سيرة حياة هذا المبدع المصري العظيم، وهي على كل حال متاحة وموثقة في أكثر من مرجع وموقع. ولكن تكفيني الإضاءة على بعض الجوانب.
عاش سيد درويش في حقبة زمنية امتازت في تاريخ مصر- دون أي حقبة أخرى- بإزدهار التنوع في الأفكار الذي انعكس على الحياة الفنية. نعرف أنه هرب من استكمال مشواره المتوقع ك "شيخ"، مثله مثل كثيرين، خرجوا من عباءة التعليم الديني إلى المجال الفني، أو جمعوا بين الاثنين وكان تواجدهم في المحافل والعروض الفنية معتادا تماما كتواجدهم في المؤسسات الدينية.
نعرف أيضا أنه عندما ترك الأسكندرية إلى القاهرة سعيا وراء حلمه الموسيقي احتضنته الملاهي أو الكباريهات التي كانت أيضا بمثابة مسارح تقدم عليها أوبريتات وأعمال مسرحية جنبا إلى جنب مع الرقص الشرقي (وأشهرها ملهى بديعة مصابني صاحبة الفضل في اكتشاف وتقديم قامات فنية فذة مثل تحية كاريوكا ونجيب الريحاني وغيرهم كثر)، إلى جانب مقاهي وسط البلد التي اجتمعت فيها فنون الزجل والإلقاء جنبا إلى جنب مع عروض العوالم والغوازي، وعليها دارت حلقات النقاش بين من صاروا فيما بعد كبار المبدعين المؤسسين في تاريخ الفن المصري مثل بيرم التونسي وبديع خيري ونجيب الريحاني وجورج أبيض ومحمد القصبجي وأحمد رامي.
المناخ الفني الذي تعايش معه سيد درويش هو الذي سمح لمرة أولى وأخيرة له- كحالة فريدة- بتقديم فن "الميوزيكال" أو الأوبريت الغنائي كما نسميه، الوحيد الذي تحقق حلمه في مجاورة الرقص والغناء والموسيقى والاستعراض والتمثيل والإخراج المسرحي في عمل واحد، هذا الفن الذي تطور عالميا ولا زال لدينا يبدو كحلم بعيد عصى على التحقق.
ونعرف أيضا أن هذا الموسيقي الفذ هو الذي قدّم درر الأغاني السياسية وأغنيات النقد الإجتماعي التي نعيش عليها حتى الآن، ونقل صورة غنائية بديعة عن حياة كافة قطاعات المجتمع المصري وقتها، كمعايش واعي لكل تفاصيلها الدقيقة، وساند الثورة المطالبة بالإستقلال لمصر وعالج قضايا تحرر المرأة المثارة وقتها في أعماله المسرحية.
ونعرف أخيرا أن هذا المناخ الذي تمددت فيه عبقرية سيد درويش هو الذي وصف في عصر لاحق بمناخ "الإسفاف والإباحية"، وصودرت بعد وفاته وبحلول الخمسينات السعيدة أغاني العوالم التي حملت إبداعات أدائية وألوان غنائية اختفت من حياتنا الموسيقية، وطلب من الفنانين- عبر مسئولين رسميين- "الإرتقاء" بالذوق العام وحذف ما لا يتناسب مع "العصر الجديد" من أغانيهم وأعمالهم.. ولعلنا الآن نعيش شهود على هذا "الإرتقاء" الفني الذي أصبحنا فيه.
ربما نحتاج أن نفكر مرة ثانية فيما يقدّمه التنوع للفن، مبدعيه وجمهوره، إذ لولا تجاور كل الأنواع وتفاعلها لما ظهرت الجودة الفنية والإبهار الفني والصنعة الفنية.. لما ظهر سيد درويش.
الفن ظاهرة إنسانية، إخترعها الإنسان لتمد حياته لحياتين، لتتنوع اختياراته، وليهرب بها من ضيق الواقع علينا جميعا.