أحاول أن أتخيل أن مواطن فرنسي أو مواطنة يابانية يركبون سيارتهم في الصباح في طريقهم إلى عملهم، يفتحون راديو السيارة فتنطلق منه أغنية تقول: "فرنسا عمرها ما أذت حد.. واللي يقرب منها تاكله بسنانها" أو "اليابان جنة وكل ناسها طيبين.. بيحبوا الحياة حنينين ومقطقطين"...
حاول أن تترجم كلمات أي أغنية ظهرت في العشر سنوات الأخيرة تحت مسمى "أغنية وطنية" للغة الإنجليزية (بحكم أنها أكثر لغة نستمع بها للأغاني بعد العربية)، ستكتشف فورا أن هذا غير ممكن. لأنه سيصنع نصّا ركيكا وغير مفهوم لأقصى درجة. وقتها ستكتشف مدى الفجوة الزمنية التي أصبحت تبعدنا عن العالم.
هل هذا معناه أن تلك الشعوب توقفت عن حب بلادها؟ الإجابة لا بالطبع، ولكنها توقفت عن التعبير بهذه الطرق الساذجة، التي تذكر مقولات أو معلومات مملة ومكررة، فقط لملأ الفراغ وسد الخانات.
كما أنها توقفت منذ زمن بعيد عن الإعتقاد بأن المواطن هو ترس لا قيمة له في آلة ضخمة اسمها الوطن. فلا يعتقد المواطن في أي مكان في العالم أن عليه تقديم فروض الولاء والطاعة من طرف واحد إذا لم يشعر بعطاء متبادل من الطرف الآخر. هكذا تقدم الحكومة والرئاسة والمؤسسات كافة نفسها له، أنها أيضا ستحافظ على حقوقه، وستعمل على تحسين أوضاعه، وستحاسب المقصرين والخارجين على القانون.
ليس في قاعدة العطاء المتبادل أي تقليل من الوطنية، بل بالعكس، هي تعزّز الانتماء لوطن حقيقي.. بينما لو تأملت كلمات أى "أغنية وطنية" لوجدتهم يحدثوك عن "وطن" لا يفعل شيئا إلا انتظار المديح، لا لعطاؤه، ولكن لأسباب غير مفهومة؛ كريمة عظيمة أصيلة حنونة بتضمنّا بتلمنّا .. إلى آخر القاموس المحفوظ.
على الناحية الأخرى، علينا أن نفهم أن الكذبة لا تلهم أحدا.. لأن المواطن المصري تغيّر ولكن تلك الأغاني لا تتغيّر.
كيف يمكن لملحن أو موزّع موسيقي أن يصنع عملا موسيقيا مبهرا بناء على كلمات إنشائية لا معنى لها مثل هذه؟ كيف يمكن أن يكون عملا موسيقيا وغنائيا مثل هذا دافعا لشاب أو شابة في 2015 يستطيع بسهولة شديدة أن يتعرّف على حياة الشباب أمثاله في كافة أنحاء العالم، وماذا يتوقع من بلاده، وماذا تتوقع بلاده منه.. والطرفان لا يستخدمان الأغاني على الإطلاق في الموضوع :)
ويتبقّى أنه لا بد هناك جانبا تجاريا لا نفهمه في الموضوع ربما هو السبب في استمرار هذا النمط الذي اختفى من العالم كله. وبينما يظهر علينا كل فنان يشارك في هذه الأعمال موحيا أنه يعملها كنوع من حب الوطن والتفاني في خدمته، لكنها كما يتضح من التكلفة وطبيعة الإنفاق والإحتشاد لإنتاجها، من الفئة الأعلى ميزانية على الإطلاق، تشارك في إنتاجها جهات رسمية وغير رسمية، وتسخّر لها كل التسهيلات لإنجازها.
إذن هذا المجهود الكبير هناك من يطلبه، ويشجّع على استمراره.. حتى لو أنها جميعا أغاني تموت بعد 6 شهور على الأكثر من إصدارها، وحتى لو جميع مطربيها لا يغنوها في حفلاتهم لأنها بطبيعة الحال غير جذّابة لجمهورهم من الشباب.
ظاهرة غريبة في عالم اليوم، أن هناك من هم مستعدون لإنفاق الكثير جدا، في سلعة منخفضة القيمة جدا، ويقومون بتسويقها إجباريا في القنوات والإذاعات الرسمية والخاصة، وتنتهي الأغنية بوصول القطار للمحطة.. ودمتم.