عمرو دياب المُلحن ... من بقالة الأمانة لشواطئ البرازيل (2)

تاريخ النشر: الأحد، 27 أكتوبر، 2024 | آخر تحديث: الأحد، 27 أكتوبر، 2024
عمرو دياب

استعرضنا في المقال السابق البدايات المبكرة للمُلحن عمرو دياب، ودورها الوظيفي لتحقيق رؤى فنية وتجارب موسيقية كان لها دور تأسيسي في موسيقى البوب المصرية بنهاية الثمانينيات.

تابعوا قناة FilFan.com على الواتساب لمعرفة أحدث أخبار النجوم وجيدهم في السينما والتليفزيون اضغط هنا

التلحين لخدمة الشكل الموسيقي اتخذ مسارات أخرى لاحقا في مسيرة دياب، بداية من الهوى اللاتيني واليوناني الذي سيطبع أغانيه بشكل واضح على مدار السنين، لدرجة أن مايكل فريشكوب أستاذ علوم الموسيقى في جامعة ألبيرتا الكندية اعتبر عمرو دياب "مؤسسا لنوع جديد من موسيقى البحر المتوسط"، وأنه المدشن الفعلي للنبرة اللاتينية والإسبانية التي سيطرت على موسيقى البوب العربية في نهاية التسعينات وحتى منتصف الألفينات، بأغنيات مثل "ويلوموني" و"نور العين" و"قمرين" و"تملي معاك".

اقرأ للكاتب المقال الأول من سلسلة (عمرو دياب الملحن) - عمرو دياب المُلحن ... من باب العلم بالشيء (1)

لكن هذا المنحى في موسيقى دياب لم يبدأ في نقطة وسيطة أو متأخرة من مسيرته كما يظن أغلب الناس، بل بدأ منذ فجر المسيرة بنهاية الثمانينيات، كما أنه لم يبدأها بألحان الآخرين، إنما بألحان عمرو لنفسه التي هي وثيقة برؤيته الموسيقية.

النموذجان الأبرز لريادة الموسيقى المتوسطية/الساحلية في ألحان عمرو لنفسه، هما "نعشق القمر" من ألبوم "ميال" (1988). وهي من بين أكثر الأغنيات شهرة ونجاح في هذا الألبوم، وتنتمي لقالب المقسوم اليوناني، وزعها فتحي سلامة، ولحّنها دياب من مقام النهاوند بجمل رشيقة راقصة ومبهجة فكانت بين أوائل التقاطعات بين النكهة المصرية واليونانية، وبدأت خط إنتاجي باسم عمرو دياب سيستمر حتى يومنا.

الإبحار لشواطئ أمريكا اللاتينية

أما النموذج الثاني فهي أغنية "ليلي" من ألبوم شوقنا (1989). التي اقتبس فيها دياب اللزمة الموسيقية في الأغنية البرازيلية الشهيرة Lambada، أشهر أغنية من أمريكا اللاتينية في حقبة الثمانينات (وهي نفسها مقتبسة من أغنية بوليفية أقدم). دياب أشار لهذا الاقتباس ضمنيا على ملصقات الشريط بعبارة "رؤية عمرو دياب" ولم يكتب ألحانه رغم ما أضافه، حيث قام بمزج تلك اللزمة اللحنية العالمية بالآلات والإيقاعات اللاتينية مع الإيقاعات الشرقية، وأضاف أفكار لحنية جديدة بالفعل من خارج لامبادا، فتنوعت الأغنية بين الشرقي والغربي، وهي إرهاصة مبكرة لفلسفة "المزج" الذي سيطغى على مسيرة كاملة.

يفتتح عمرو "ليلي" بموال قصير من مقام الكرد، ينتقل منه إلى اللزمة العالمية الشهيرة على مقام النهاوند في "ليلي ليل يحلى لما عنيكي ليا تميل"، ويُطعم هذه الجملة الغربية الجذابة بانتقالة شرقية مفاجئة إلى مقام الراست في جملة "مين يا عيني يلومني ولا ياخدك مني". ثم يعود للنهاوند في "ياللي بعدك عني مستحيل".

بالإضافة لثراء اللحن في تنقلاته النغمية، هو أيضا كاشف عن البوصلة الفنية للفنان عمرو دياب، وأن إبحاره المبكر سواء نحو شواطيء شمال المتوسط، أو السواحل اللاتينية، بدأ بألحانه ورؤيته الخاصة وتعديلاته، حتى وإن استكمل المسيرة نفسها بتعاونات مع ملحنين آخرين فيما بعد. ولا عجب أنه بعد سنوات قليلة سيغزو بأغنياته البرازيل نفسها (بلد لامبادا) وستَفرد له الإذاعات البرازيلية ساعات بث مخصصة للحديث عن مشروعه الفني العابر للمحيطات.

عمرو دياب

بالحب اتجمعنا…

يمتد هذا النهج العالمي في ألحان دياب لنفسه من خلال أغنية "أفريقيا"، التي افتتح بها دورة الألعاب الأفريقية بالقاهرة عام 1991 في مشهد مهيب من مسيرته. والأغنية لحّنها عمرو دياب من سلم فا ماجير (عجم فا). ووزعها مودي الإمام باستخدام الإيقاعات الأفريقية ولزمات لحنية من السلم الخماسي الكبير تعزفها آلات نحاسية؛ نظرا لأن العجم والخماسي الكبير يعتبرا من السلالم المتداخلة فيما بينهما.

لم يكتف دياب بغناء "أفريقيا" بثلاث لغات، العربية والإنجليزية والفرنسية. لكنه تعاون مع مودي لصناعة شكل موسيقي يستهدف الجمع بين أكثر من ثقافة. الجملة اللحنية الأولى تغنى بالإنجليزية، بتقطيعات سهلة على سلم الماجير بهويته الغربية، وهو لحن مداه واسع نغميا لأنه يتجاوز الأوكتاف الواحد. حيث تتصاعد الجملة نغميا بشكل ملحوظ في نهايتها عند كلمة "أووه أفريكا". وهنا يتجاوز عمرو درجة جواب الفا، ليختتم الجملة بطريقة أوبرالية. ويتكرر الأمر نفسه بالجزء الفرنسي.

ثم يظهر التويست اللحني المدهش في: "يا لالالي ويا لالالي"، إذ يقطع دياب وصلة الغناء الغربية ويلقي موالا من مقام عجم الفا، يتصاعد من خلاله نحو أقصى درجات السلم الموسيقي بعد الجواب في "يا ليلي يا ليلي". العجم يظهر بهويته الشرقية هذه المرة، والمُلفت هنا كيف تغيرت الروح من الغرب إلى الشرق رغم أن المقام ودرجة ركوزه لم يتغيرا.

كل ما سبق لم يكن إلا تمهيدا للنقلة الأشهر من الأغنية: "بالحب اتجمعنا والدنيا هتسمعنا..." على إيقاع المقسوم التسعيناتي، هذه النقلة جاءت بطعم وهوية عمرو دياب نفسه والشكل الموسيقي الذي سجله باسمه في نهاية الثمانينات. في نقطة وسط بين سجال الهويات الشرقية والغربية.

كانت "أفريقيا" من أوائل الأغاني في تاريخنا الموسيقي المعاصر التي تجمع بين الغرضين: الكرنفال والمزج الثقافي. وستتحول بعدها لنموذج يقلده الآخرون في أغاني ذلك النوع من المناسبات.

عمرو دياب

رصيف نمرة خمسة وقالب الدور

اللحن في خدمة الأسلوب، يتجلى من جديد في "رصيف نمرة خمسة"، التي لحنها دياب من مقام البياتي من ركوزه الأصلي (ري)، بما يشبه قالب الدور، مُستلهما أسلوب الشيخ إمام في تلحين الأغنيات الثورية، وقد أعلن دياب نفسه عن هذا الإلهام المقصود فقد كانت له وظيفة موسيقية، وأخرى درامية بأحداث فيلم "أيس كريم في جليم" (1992) الذي لحّن عمرو جميع أغنياته لنفسه.

"رصيف نمرة خمسة" لحن دسم لقصيدة عامية طويلة ومُركبة لدرجة يصعب اختزالها في بناء لحني تقليدي (مذهب وكوبليه يتكرر)؛ لذلك فحتى يومنا مازالت الأغنية واحدة من جواهر الهضبة الغنائية وتُطلب منه في الحفلات، ناهيك عن كونها بين أكثر أغنياته اختلافا، فهي تزيّن الربتوار الغنائي له وتثقله.

ويمكن تلخيص هذه الأغنية كحالة تجيب على سؤال: كيف تصنع أغنية تبدو عميقة وثورية في الدوائر اليسارية، ليلتقطها المثقفون ويستخرجوا منها الرمزيات. حتى الآن لا نعلم إن كانت "رصيف نمرة خمسة" أغنية "مثقفين" فعلا أم أنها طُعم للمثقفين.

لحن الأغنية غير تقليدي، لأن المذهب بالكاد يتكرر، والكوبليهات غير متطابقة، فهي أقرب لمفهوم "الأغصان" الذي اشتهر به قالب "الدور" في القرن الـ19 وبدايات القرن الـ20. وسُمي بهذا الاسم لأن الأغنية تدور حول نفسها وترجع لما بدأت عليه، وهذا ما نشعر به عندما نسمع المذهب "رصيف نمرة خمسة والشارع زحام" في مطلع الأغنية ثم يعود ويتكرر في الختام بعد رحلة طويلة في شوارع القاهرة الزخمة بحكايات عم لمعي ونصحي السروجي وبقالة الأمانة...الخ

ردود الكورال في "رصيف نمرة 5"، لم تكن تقليدية، بل أقرب لمفهوم "البطانة" الذي اشتهر أيضا في قالب "الدور" وفي جلسات المقرئين، والبطانة هم مجموعة من المرددين حول المؤدي الرئيسي، يعيدوا الغناء مرة، أو يردوا بالآهات مرة أخرى بتناغم مع اللحن الأساسي. مثلما في الآهات التي نسمعها بنهاية جملة "وجات وقعة سودا في سوق الإمام (آااااه)"، تلك الآهات و"تاتاتاتا" التي يقولها عمرو اشتهرت في قالب الدور. وهذا ينمّ عن ثقافة موسيقية واسعة لملحن الأغنية عمرو دياب وموزعها حسام حسني.

هناك استرسال غير مسبوق بالنغم بالنسبة لأغنية حديثة مدتها ٤ دقائق. وهناك اختلافات نغمية بين الشطرات وبعضها. فمثلا نلاحظ أن اللحن في "عبد الله رشدي المحامي القدير…" الذي يصل فيه عمرو لذروة غنائية من مقام البياتي، يختلف في تنغيمه عن اللحن في "تورماي بسنجة في روض الفرج… " الذي يصل فيه عمرو لذروة جديدة ولكنها من مقام آخر هو العجم. رغم أن الهدف من الشطرين واحد، ويحققا الهدف نفسه: كوراس تصاعدي. وذلك ينمّ عن ثراء هذا اللحن من الناحية الأفقية، فهو لحن يكسر الرتابة بسيفٍ حاد.

ظهر اتهام لعمرو باقتباس هذا اللحن من قصيدة "أردت لقاها فتمنعت" للموسيقار محمد عبد الوهاب. إلا أنه اتهام باطل على عدة أصعدة، أولا: التشابه لم يتعدى مازورتين فقط، أي مازال في الإطار القانوني المسموح به (أربع موازير)، فالتشابه ينتهي عند جملة "والشارع الزحام". ولحن دياب يمتد لأضعاف هذا العدد من الموازير والمزيد من الجمل اللحنية المبتكرو، دون تشابه مع أي لحن آخر. وثانيا لأن أغنية عبد الوهاب لم تُطرح تجاريا أبدا، بل هي من أرشيف تسجيلاته الخاصة على آلة العود، ويصنفها عشاقه من المفقودات التي تم الكشف عنها على العلن بعد وفاته وانتشرت في زمن الإنترنت بفضل "منتدى سماعي". إذن، الفرصة ضعيفة بأن يكون عمرو قد سمع هذا اللحن قبل 1992. والمرجح أن التشابه في مطلع الأغنيتين مجرد توارد خواطر.

عمرو دياب

البناء المغاير للأغنية

أغنية "دانا دانا" من نفس الفيلم، لحنها دياب من مقام الكرد بتقطيعات سريعة وجذابة تعلق في الأذن بسهولة، وهي الأخرى تحقق مبدأ التلحين لخدمة الشكل الموسيقي، ولكن تفعلها بأكثر الصور تجريدا. فهي أغنية بلا كلمات! صُنعت لتبروز الصراع الداخلي لبطل الفيلم "سيف"، هذا الشاب الحالم الذي يملك بداخله كثير من الموسيقى وقليل من الإيديولوجيا.

وحين يحاول سيف مليء هذا الفراغ الفكري لأغنياته مستعينا بشاعر يساري الميول (أشرف عبد الباقي)، يتعثر ويشعر باغتراب عن هويته، فيتراجع إلى مبدأه الأول: "الموسيقى أولا". ويسهل الجدل أن هذا المبدأ ينعكس على مشوار عمرو دياب نفسه، الذي يُعلي من قيمة الجَرس الموسيقي للكلمة على حساب المعنى (في معظم الأحيان).

اللحن في خدمة الشكل الموسيقي، يظهر حديثا في ألحان عمرو لنفسه، من خلال أغنية "عم الطبيب". التي يعتبرها كثيرون امتدادا طبيعيا ل رصيف نمرة خمسة، وهي بالفعل تشترك معها في ثلاث سمات رئيسية: البناء غير التقليدي، والموضوع الاجتماعي النادر في مسيرة دياب، والاستعانة بكورال لأصوات خارجية على غير عادة عمرو الذي يفضل أداء الكورال بصوته.

"عم الطبيب" لحنها عمرو دياب من مقام الحجاز مصوّر على درجة صول. وتتميز بطابعها الدرويشي الذي ازدهر في مطلع القرن العشرين، وخصوصا بالمسرح الغنائي. الكورال هنا أيضا أقرب للبطانة منه إلى الكوراس الطبيعي. والأغنية تتكون من ثلاث تفعيلات شعرية قائمة على اللحن نفسه، دون عودة للمذهب، فهي أغنية بدون جملة "سينيو" (الجملة التي تتكرر في وسط الأغنيات) ما يجعلها شديدة الفرادة في السياق الزمني التي طُرحت فيه، وتعيد التأكيد على الثقافة السمعية الواسعة لمُلحنها عمرو دياب، وعلى أن كل شكل موسيقي جديد قدمه كان يستدعي تدخله، سواء بالتلحين أو الرؤية الموسيقية.

عمرو دياب

اقرأ أيضا:

#شرطة_الموضة: فستان أسود كلاسيكي منح نجلاء بدر إطلالة ملكية في افتتاح الجونة السينمائي

ليزا تستعيد ذكرياتها مع عادل إمام ويسرا في "كراكون في الشارع": علموني ألعب كوتشينة

حكاية إصابة محمد صبحي في "الهمجي" ... كيف استفادت منها الطفلة ليزا؟

لا يفوتك: في الفن يكشف حقيقة وليد فواز مبدع أدوار الشر

حمل آبلكيشن FilFan ... و(عيش وسط النجوم)

جوجل بلاي| https://bit.ly/36husBt

آب ستور|https://apple.co/3sZI7oJ

هواوي آب جاليري| https://bit.ly/3LRWFz5