ربما يبدو الشيء المشترك بين المأسآة التي تحدث في فلسطين اليوم، وبين مآسي الدول العربية الأخرى التي كان من بينها العراق التي نحاول الحديث عنها أكثر هنا هي أمريكا، التي تطل أحيانًا برأسها كبطل مشارك من بعيد، تساعد على دعم الخراب من بعيد، وأحيانًا كما هو الحال في العراق تدخل مباشرة لتمارس همجية لا يُحاسبها العالم عليها نتيجة قوتها المفرطة والتشرذم العربي غير الرادع لأي شيء، تبدو العراق الشاهد الأكبر على أمريكا كشيطان مدمر، وربما يكشف تاريخ العراق الذي يظهر في تلك النقاشات الفنية المثمرة كيف تُمرّر تلك الوحشية دون عقاب، وإلى أي مدى يمكن أن تتسبب في دمار وخراب لملايين على مدار سنوات طويلة وقاسية تحديدًا على أصحابها، الذين ينساهم العالم بعد خروجهم من الأخبار العاجلة ودخول مأسآة أخرى على الخريطة تغطي على المأسآة القديمة لينشغل بها الناس، قصة العراق الذي دمرته الحرب يعيده الفيلم العراقي الأحدث "من عبدول إلى ليلى".
تابعوا قناة FilFan.com على الواتساب لمعرفة أحدث أخبار النجوم وجديدهم في السينما والتليفزيون اضغط هنا
ما يمكن أن يطرحه فيلم "من عبدول إلى ليلى" هو إعادة تفكيك التاريخ العراقي لمعرفة الذات أكثر خشية أن ينسى الجيل الجديد هذه الهمجية القديمة التي تتشابه مع ما يتابعه اليوم من أخبار، كما يمكن اعتبار الفيلم سؤال مفتوح حول من تسبب في ذلك بشكل مباشر أو صهين على رؤيته، في الوقت الذي تتباكى يوميًا وسائل الإعلام العالمية على أشياء لا يمكن حتى مقارنة بساطتها أو تفاهتها بقتل هؤلاء الآلاف، "من عبدول إلى ليلى" وثيقة جديدة يمكن أن نتذكر منها المأسآة وأصحابها ومن تسبب فيها، الفيلم الوثائقي الطويل "من عبدول إلى ليلى" من إخراج وكتابة ليلى البياتي، وإنتاج ميشال بالاغيه، كان قد فاز بمنحة إنتاج من مؤسسة آفاق، وتم تطويره على مدار سنوات للوصول إلى شكله النهائي الحالي الذي جعله إحدى خيارات الأفلام التسجيلية التي سيعرضها مهرجان الجونة السينمائي في دورته الجديدة.
في كل أفلامها التي تبدو أحيانًا توثيق غنائي بصري طويل أو قصير تلعب المخرجة والمغنية العراقية الفرنسية ليلى دور البطولة؛ بدأت رحلتها بإخراج فيلم قصير تحت عنوان (فو)، عُرض في مهرجان برلين السينمائي عام 2009، نال تنويهًا خاصًا، ليعرض بعد ذلك في أكثر من 20 مهرجانًا حول العالم، ثم قدمت فيلمها الروائي الطويل الأول "برقية برلين" (2012)، والذي قدمت من خلاله ألبوم موسيقي مستوحى من أحداث الفيلم أيضًا، ظهرت في الفيلم البطلة التي تصاحب أختها، تبحث خلاله ليس عن ذاتها فقط كمنطقة وجودية معقدة لكن أيضًا تبحث عن هويتها المكانية واللغوية الضائعة، وما يبدو بشكل مباشر وغير مباشر متأثرًا بالخراب الكبير الذي حدث في العراق بعد دخول الأمريكان العنيف العدمي.
لذلك ففي آخر أفلامها ومن خلال علاقة الابنة بأبيها، يأخذ الفيلم في رحلة بين عبدول الأب إلى ليلى/ البطلة المخرجة والبطلة، داخل عالم حميم يقع بين معاناة النفي من العراق وبين غنى التراث الثقافي، على خلفية الصدمة العراقية، تتمكن المخرجة من تحويل هذه التجربة عبر إعادة استكشاف جذورها وتعلّم وتناقل اللغة والأغاني والموسيقى.
تتحرك المخرجة ليلى التي تعلب بنفسها دور البطولة في أغلب أعمالها من منطقة ذاتية تمامًا، تربط بين الخيط الوثائقي والخيط الروائي الذي يحاول ضبط إيقاع خيالها وذكرياتها التي تعتمد عليها بشكلٍ كبير، ثمة شيء تأسيسي في مشروعها السينمائي الغنائي في آن يبدو قادم من عالم بعيد أو يبحث عنه بشكلٍ أو بآخر. الذاكرة تبدو الأساس في كل ذلك.
تدور أحداث الفيلم حول ليلي البطلة والمخرجة التي تكتب كلمات أغانيها وتمضي من مدينة إلى أخرى حتى تصل إلى القاهرة، وتروي لنا هواجسها، والكاميرا تلازمها، والموسيقى أيضًا، تبدأ المشاهد الأولى في الفيلم بوقوف ليلى وهي تغني مع فرقة موسيقية، نراها وهي تبكي، نتعرف وقتها على مدى عمق الجرح، الذي لا يشفى إلا بالموسيقى.
كانت فكرة الفيلم أساسًا قد تكوّنت من لحظة اصطدام إحدى السيارات بالمخرجة/ البطلة، يتسبب ذلك في فقدانها ذاكرتها، فيما بعد تتواصل الشابة الفرنسية من أصول عراقية مع عائلتها حتى تعرف من هي فعلًا بعد أن تُقرر تصوير تلك الرحلة التي تستعيد هويتها، وفي أثناء ذلك داخل منزل الأسرة في جنوب فرنسا، تواجه ليلى والدها الشاعر عبد الله أو عبدول بماضيه أو تحديدًا ما يرتبط منه بحرب العراق، وتقرر أن تتعلم اللغة العربية، لكي تتمكن من وضع كلمات قصائده في أغنيات تؤلف موسيقاها بنفسها وتحكي من خلالها الفيلم وتذهب من خلاله إلى العراق لتعرف تاريخها أكثر.
تبدو العراق هنا هي محور حركة الفيلم بالرغم من أنه يعتمد بصريًا على أكثر من دولة، يدور في فلك التنقل بين فرنسا وألمانيا ومصر، وطبعًا معهم العراق، لكن الشتات العراقي هو المركز في الاضطراب الأسري الذي يحدث بشكل مباشر على حياة الأب والأم والأولاد، ويجعل هناك قصة مختلفة للمخرجة، هؤلاء ومثلهم الملايين الذي شردتهم الحرب الأمريكية على العراق، سعت إلى قتلهم دون هوادة، لا يظهر الفيلم ذلك بشكلٍ مباشر بينما يظهر أثرها الإجرامي على من عاشوا، ويترك سؤال أكبر على المأسآة لمن ماتوا أيضًا.
من عبدول إلى ليلى.. هل يبدو عنوان مضلل؟
عندما كشفت بعض التجارب أن عدد من الحيوانات تمكنت من إيجاد طرق هروب من المتاهات ظهرت بعض التساؤلات التي تفتح نقاش واسع عن الأمر العجيب، يبحث حول ما يمكن أن يسجله الحمض النووي أو الذكرى التي تُنقل للأبناء، كان إحداها تحت عنوان: هل نولد بذكريات أسلافنا؟ يقول بعض العلماء أن إجابة سؤال كهذا يمكن أن يساعد في تفسير بعض المخاوف والقلق، والعديد من المشاعر البشرية عمومًا.
يمكن من النقطة السابقة التي تخص الذاكرة تحديدًا أن ننتقل رويدًا عن السياق والخطاب الذي تناولت به المخرجة فيلمها المثير بتحليل بعض الاختيارات والمشاهد التي تعبّر عن نظرة مختلفة للملهاة العراقية، هذه الرؤية قادمة من عين فتاة غربية بالكامل بينما تظل شعوريًا محبوسة في تكوينها العربي الذي لا تعلم الكثير عنه بينما تحبه أكثر من أي شيء آخر.
في أول مشاهد الفيلم، تتساءل المخرجة عن طريق إحدى الأغاني: ما هو الصحيح وما هو الخاطيء؟ جئت لهذه المدينة بالصدفة، لا أعرف ما هو الصحيح وما هو الخاطيء. ثم تبدأ في تذكر قصتها الطويلة على خلفية بصرية مشتتة بين الرسوم المتحركة وحركة الكاميرا غير المستقرة أحيانًا لتوير خيالات أو ربما القبض على بعض المشاعر المضطربة التي تحاول المخرجة التعبير عنها في كل حركة.
حتى طريقة كتابة الأسماء في التتر الذي اختارت أن تكتب من خلاله أسماء فريق العمل كان هجين صعب التهجي تمامًا مثل نطق البطلة نفسه للغة للعربية، كل شيء يعبر عن الشتات بينما تسعى هي بفيلمها إلى جمعه مرة أخرى، لأنه كما يبدو لها أن "كل شيء يبدو ضبابي" وغير مرئي، يحتاج الأمر إلى رغبة أكثر في معرفة تلك الهوية الأصيلة الأكثر قدمًا وصعوبة.
تلك المحاولات جعلت الأب عبدول الذي كان قد توقف تمامًا عن كتابة الشعر منذ حوالي خمسون عامًا للتفرغ للشأن السياسي والحياة، يعود للكتابة والشعر مرة أخرى، في إحدى المشاهد يحاول عبدول تهجئتها مطلع أغنية التي يقول مطلعها "فُلانة" أي شخصٌ ما، يقفا معًا لمحاولة تعبير فتاة أجنبية اللغة تمامًا تحاول أن تتعلم الغناء العربي السليم، وربما الجميع في أسى ممن تسبب في بعدها كل تلك السنوات، يضحك الجميع أثناء محاولة تهجئتها الكلمة لتصحيح الطريقة التي قالتها بها بينما تتثبت الكاميرا للحظات على مشاعر الأسى التي تجلس فيها الفتاة فقط لأنها لا يمكنها تهجئة كلمة في لغة تمثّل نصف تكوينها الشخصي.
تبدو التسمية التي اختارها الفيلم مضللة نوعًا أو تتلاعب لتطرح سؤال أكثر، فحين يظهر أن الفيلم رسائل وحديث من عبدول إلى ليلى، ربما يبدو فعلًا من ليلى إلى ذاتها، ثمة تساؤلات طويلة على خلفية الوضع السياسي والثقافي التي تحاول الفتاة أن تبحث فيه من خلال وسائط على رأسها الأب العربي الذي تسبب في خلق هذا الجزء فيها نتيجة أوضاع بلاده.
وربما هذا التفسير هو ما يخلق الرابط الآخر الأكثر التحامًا وهو الكيانات التي تسببت في تعقيد وأزمة بلاد الوالد وتحويلها إلى منطقة صراعات يقدم الغالبية فيها هويتهم الحقيقية التي يضطرون بعد زمن طويل إلى محاولة استعادتها لمعرفة ذاتهم الحقيقية أو جزء من ذاتهم المسروقة.
هذا الفيلم الهاديء المليء بالسلام والغناء ومحاولة التعامل مع اللغة العربية لا يبدو سوى فيلم سياسي عميق عن الوضع العراقي الحالي من عيون أسرة أبعدها الشتات وتحكمت فيها الغربة أكثر مما يبدو، المسئولية السياسية التي تنصل منها كل من تسبب فيها ليصل بنا إلى فتاة نصفها عربي ظاهريًا بينما لا تعرف شيئًا عن حياتها العربية فعلًا، ويبدو أن معرفتها تتطلب الجهد المضني كي تنغرس فعلًا في ماضيها الحقيقي، ليس بسبب الحادث الأليم الشخصي بل بسبب الحادث الأكثر ألمًا، الذي دمرت فيه أميركا بلد والدها كما سعت في تدمير الكثير من البلدات العربية الأخرى.
يحكي عبدول الأب إلى ابنته أشياء يقول أنها أسرار لم يمكنه حكيها إليها من قبل؛ إّ يقول أنه عندما اعتقلت السلطات زملائه نتيجة ثورتهم وكادوا أن يعتقلوه تسبب ذلك في التفكير بالهرب قرر في إحدى المرات أن يشتري بعض المتفجرات بسبب ما لاقاه من مأسي معهم، لهذا الوضع كانت تصل الأمور في العراق التي دمرتها حكومات قررت أنها تتحجاوز رغبة أبناءها الشباب في بنائها، وسريعًا ما يقرر الرجل الهرب خشية القتل مثل زملائه.
في أغلب مشاهد الفيلم تستمع فيه ليلى إلى والدها وإلى الشارع بل حتى إلى أغنياتها التي كتبتها، معنا، بعين زجاجية تسعى فعلًا أن تفهم ما الذي تسبب في كل ذلك، لا تحمّل أي شيء السبب بشكل مباشر، لكنها تفهم جيدًا مدى ما وصلت إليه من تشتت في هوية تحاول أن تستجمعها.
في رحلتها تمر المخرجة على عدد من العرب المقيمون في دول غربية مثل ألمانيا وفرنسا، عرب آخرين تمر عليهم سريعُا، أيضًا هجرتهم الحرب المأساوية في سوريا وليبيا وغيرها، يمكن تخيل المصير ذاته من الأمر كذلك، في أحد المرات تستمع ليلى إلى حكاية معتقل اضطر إلى ترك بلاده بعد التعذيب الشديد الذي لاقاه، تستمع المخرجة إلى قصته بتأثر وبكاء بينما يخبرها جيدًا أنه "لم يعد يتأثر بالموت، الذي أصبح ملازمًا لقصصه وتكوينه من كل تلك الحروب" تبكي ليلى ذاتها.
تقف البطلة دائمًا في منطقة برزخية تتعاطف فيها مع نصفها العربي المليء بالشتات والحرب والاقتتال، بينما لا يمكنها تحميل المسئؤلية على المتسبب في كل ذلك الذي يبدو واضحًا أنه الإنسان الأبيض الذي ينتمي إليه نصفها الثاني، يبدو ليلى في كثير من الأحيان مخلّصة يتم صلبها لتتجرع كل تلك المشاعر المتضاربة دون أن يتحملها أحدٌ آخر معها حتى عبدول الذي تدعي أن كل تلك الرسائل منه.
فيلم من عبدول إلى ليلى، هو أغنيات فتاة تبحث عن أصولها العراقية، حكاية شتات أخرى عن العراق، ثم عن العالم العربي في عالم ما بعد الحداثة، نتيجة دمار تسببت في أمريكا ومعها الكثير من حكومات الإنسان الأبيض الذي لم يدينها حتى، حكاية أغنيات ترددها فتاة تبحث عن أصولها ولغتها وكيانها وتخبرنا كل شيء سياسي دون أن تقصد ذلك.
اقرأ أيضا:
علاء مرسي يحتفل بحنة ابنته … جلابية بلدي وساري هندي
مواعيد عرض مسلسل "مطعم الحبايب" لـ أحمد مالك وهدى المفتي
نشوى مصطفى تتعرض لذبحة صدرية وتقوم بتركيب 3 دعامات في القلب
أول تعليق من رانيا يوسف على تحويل أبطال "أوراق التاروت" للتحقيق: أنا مالي مش إحنا اللي جيبنا البلوجر
لا يفوتك: محمد هشام عبية: مين قال إن "صلة رحم" كان فيه مشهد خارج! .. هل شوه "رسالة الإمام" تاريخ مصر؟
حمل آبلكيشن FilFan ... و(عيش وسط النجوم)
جوجل بلاي| https://bit.ly/36husBt
آب ستور|https://apple.co/3sZI7oJ
هواوي آب جاليري| https://bit.ly/3LRWFz5