"بارثينوبي".. الجمال والشعر في سينما باولو سورنتينو

تاريخ النشر: الخميس، 23 مايو، 2024 | آخر تحديث:
بطلة فيلم بارثينوبي

"استعارة مكنية فيها تشبيه لعنترة بالأسد الذي يفترس خصومه دلالة على الشجاعة والقوة".
قفزت إلى ذهني فجأة تلك الذكريات الآتية من دروس البلاغة في المدرسة الثانوية عندما سألتني ناقدة زميلة بعد مشاهدة فيلم "بارثينوبى Parthenope" عن دلالة تفصيلة بعينها اختارها المخرج الإيطالي باولو سورنتينو في أحد مشاهد الفيلم. تذكرت عندما كانت المناهج الدراسية تحاول تعليمنا تذوق الشعر عبر التحليل الدقيق لكل كلمة واستعارة وتشبيه وكأنه تحليل للدم في أحد المعامل، دون فهم للروح العامة للقصيدة وإيقاعها الداخلي ومساحة الخيال التي تتحرك خلالها، والنتيجة كانت أن الغالبية العظمى من الطلبة نجحوا في اللغة العربية وهم لا يتذوقون الشعر، بل ويكرهونه!

ثمّة منطق في سؤال الزميلة، ففي النهاية هذه هي الطريقة التي يعمل بها عقل النقاد: يفكرون في تفاصيل الفيلم المختلفة، يحاولون تفسير كل اختيار اتخذه المخرج في عمله، ثم يقيّمون قدره هذا الاختيار على تحقيق الغرض من ورائه، سرديًا وجماليًا. لكن إذا كانت لكل قاعدة استثناءات، فسيكون باولو سورنتينو هو أحد صناع السينما المعاصرين الذين يمتلكون الحق الاستثنائي في النظر لأفلامهم كما ننظر للشعر، ننظر للصورة الكلية ونبحث عن المعنى الذي يصبو إليه الفنان، حتى لو لم تكن بعض التفاصيل مفهومة الدلالة أو سهلة التفسير.

بارثينوبي

تابعوا قناة FilFan.com على الواتساب لمعرفة أحدث أخبار النجوم وجديدهم في السينما والتليفزيون اضغط هنا


لم ينل الرجل هذا الاستثناء بقرار سيادي أو بمنحة سماوية، وإنما بمسيرة فريدة اشتغل خلالها مرات ومرات على أن يصنع أفلامًا أقرب ما تكون إلى الشعر. فإذا كان الشعر مقترنًا بالبحث عن الكمال، عن المعان المطلقة، وعن إيجاد عالم خاص وإيقاع داخلي يمنح القصيدة فرادتها، فكل من شاهد أفلام سورنتينو السابقة مثل "الجمال العظيم The Great Beauty" و"تبعات الحب The Consequences of Love" و"شباب Youth" يعرف خصوصية الأسلوب الذي يمتلكه، والذي يعود مجددًا ليُظهره في فيلمه الجديد "بارثينوبى"، المشارك في المسابقة الرسمية لمهرجان كان 2024.

امرأة ومدينة

ماهي خصوصية أسلوب باولو سورنتينو؟ وما هي "بارثينوبى" التي يحمل الفيلم اسمها؟ نبدأ بالإجابة عن السؤال الثاني، بارثينوبى هو الاسم القديم لمدينة نابولي التي ينتمي إليها سورنتينو، وهو أيضًا اسم إحدى السيرانات sirens، المخلوقات الأسطورية في الميثولوجيا الإغريقية التي تمتلك رأس امرأة وجسد طائر، وتقوم بإغواء البحارة بغنائها الساحر حتى تقودهم إلى الهلاك، بما جعل الكلمة ترمز ثقافيًا للمرأة المغوية المُهلكة.

حسنًا، بطلة الفيلم امرأة تحمل اسم مدينتها، ويرتبط مصيرها بها منذ مولدها عام 1950، حتى لحظة نهاية الفيلم عام 2023. أي يتابع سورنتينو أكثر من سبعة عقود في حياة بطلته بارثينوبي، مستخدمًا أسلوبه الخاص، الذي يعتمد على منطق حلقي episodic، ينقسم فيه الفيلم لمجموعة من المواقف الأقرب للاسكتشات، التي تضع شخصيته الرئيسية في مواقف مختلفة، يجمعها هنا ترتيب زماني كرونولوجي لم يكن موجودًا في أفلام سابقة، لكنها تظل تتمتع بقدر كبير من الحرية، فلا حتمية درامية لترتيب أغلب المشاهد باستثناء بعض الأحداث الرئيسية في حياة البطلة.

بارثينوبي

باختصار، لو كنّا في نفس السنة من حياة بارثينوبي، ولو تفادينا الحدث الرئيسي الذي يشكل صدمة حياتها الأكبر، فيمكن تخيل تبديل موقف مكان الآخر دون أن يخل ذلك بترتيب الحكي، فقط سيخل بالإيقاع الداخلي الذي يبنيه سورنتينو عبر مشاهده. لذلك نقول إنها أفلام أقرب للقصائد: الحكاية بمعناها الكلاسيكي ليست أهم ما فيها، ولكن كيف تُحكي هذه الحكاية، وكيف يُمكن أن نكوّن مشاعرًا تتراكم موقفًا بعد الآخر فيأخذنا الفيلم في تيار حسّي زخم، يُفسره كلٌ منّا تفسيرًا ذاتيًّا بحتًا، آخذًا من الفيلم ما يمكنه أخذه، حسب ثقافته وقدر انغماسه، بل وحالته المزاجية وقت المشاهدة.

عن الجمال وزواله

بارثينوبى امرأة باهرة الحُسن منذ طفولتها، محكومة بجمالها الذي يأسر كل من حولها، بذكائها الذي يفوق المتوقع من الجميلات، وبحبها للحياة ولمدينتها التي تحمل اسمها فترتبط حياتها بها. الملخص الرسمي وتتابعات البداية يخبراننا أن البطلة صورة للمدينة وهو حقيقي في أحد مستويات الفيلم، لكنها في مستوى آخر تُمثل بارثينوبى رحلة الإنسانية كلها، رحلة اكتشاف الذات، اختيارات ولذة الشباب، صراع العقل والغواية، وغيرها من الأفكار والمشاعر التي تضمها حكاية المرأة/ المدينة.

يُقدم سورنتينو بطلته سيليستى دالا بورتا كأيقونة للفتنة، والجمال هو ملعبه المفضل، فمن بين كل مخرجي العالم ينفرد باولو سورنتينو بذائقته المدهشة. هذا مخرج لا يكاد يصوّر لقطة واحدة دون أن يحكمها حس جمالي فائق، في العناصر والتكوين وحركة الكاميرا وكل تفصيلة داخل الكادر، بإتقان يجعل البعض يتهمه بالشكلانية. غير إن ما ينقذ مشاهد سورنتينو في أغلب الأوقات من الاتهام هو ما يخبئه الجمال دائمًا من حزن دفين.

لدى سورنتينو هوس مزمن بالخوف من زوال الجمال، فمهما كان قدر الفتنة أو ما حققه أبطاله من نجاح أو جاذبية أو تحقق، فهذا الجمال محكوم عليه مسبقًا بالفناء: العمر سيتقدم والجسد سيترهل، وستصير الشابة عجوز تنظر لماضيها متحسرة على كونه ماضيًا، تمامًا كما كان الموسيقار بطل فيلم "شباب" ينظر لسنواته الماضية متعجبًا من مرورها بهذه السرعة.

في أحد أهم مشاهد الفيلم يرفض الكاتب الأمريكي المثلي الذي تحب بارثينوبي كتاباته (يلعبه النجم جاري أولدمان في ظهور قصير لكنه مؤثر) أن تذهب الفتاة الجميلة لقضاء باقي الليلة معه. "لا أريدك أن تهدري لحظة من شبابك معي". وكأنها عبارة يقولها موسيقار "شباب" أو بطل "الجمال العظيم" نادمًا. ففي النهاية سنندم في نهاية أعمارنا على مالم نفعله، لا على ما اقترفناه.

رحلة نحو التحرر

تعيش بارثينوبي حياة حافلة كمدينتها. تسافر إلى كابري في رحلة صيف شبابية ستغير باقي حياتها، تقابل محبين وعشاق منهم من تقربهم منها ومنهم من لا تجدهم يستحقون مهما حاولوا إبهارها، تستجيب لحلم النجومية وتبدأ خطوات تعلم التمثيل لكنها توقف المسار عندما تقابلها صورة أخرى لنظرة العجائز على شبابهم الضائع، وتقرر طول الوقت أن عقلها هو مستقبلها، فتنشغل بعلم الأنثروبولوجي تحت إشراف بروفيسور يشبهها: متعجرف يعرف قيمة نفسه، لكنه صادق يقدر قيمة من يستحق. "أنت امرأة نادرة لأنك لا تستغلين جمالك"، يقولها عمدة المدينة لها فتوافقه جزئيًا، فهي تعلم أنها استخدمت جمالها في مواقف عديدة، أو على الأقل فتح لها أبوابًا مغلقة.

حكايات ومواقف تمر بها بطلتنا في مسيرتها من المراهقة إلى الشيخوخة، يرويها باولو سورنتينو بطريقته التي أوضحناها، ليوقعنا في حب "بارثينوبي"، الفتاة والمدينة، بكل ما فيها من تعقد وتناقضات ونقاط ضعف، وأنانية، وصدق، وانحراف. ليمنحنا قصيدة سينمائية جديدة، ينطبق عليها ما ينطبق على القصائد: لو توقفت عند كل التفاصيل فستجد بعضها غامضًا أو مباشرًا أو مربكًا، لكنك لو نظرت للصورة العامة، وتركت نفسك لموسيقى العمل وإيقاعه الداخلي، ستجدها تجربة شعورية مُشبعة بحق.

قد تعجبك أعماله أو لا تعجبك، وقد تعتبر "بارثينوبى" أفضلها أو أسوأها، لكن من الصعب إنكار كونه أحد المخرجين القلائل المتبقين الذي يسعون لتقديم مالم يقدمه أحد قبلها، الحالمون بالكمال المستحيل، بالجمال العظيم الذي اختاره عنوانًا لأحد الأفلام. تنجح محاولات وتفشل أخرى، لكن الحلم يبقى تاجًا على رأس الحالمين.


اقرأ أيضا:

"سنة حلوة يا جميل" ... ويجز يحتفل بعيد ميلاد أسماء جلال

هيفاء وهبي بإطلالة كلاسيكية في مهرجان كان السينمائي - صور وفيديو

محمد إمام يتزوج ويزو في الإعلان الثاني لفيلم "اللعب مع العيال"

هلا السعيد تستغيث من محاولة "تحرش" على "محور الضبعة": جريت وسبت العربية والسواق نزل يفك حزام البنطلون

لا يفوتك: #شرطة_الموضة|| أجمل وأغرب الإطلالات من حفل "الميت جالا".. كيف أعاد النجوم إيقاظ الموضة؟

حمل آبلكيشن FilFan ... و(عيش وسط النجوم)

جوجل بلاي| https://bit.ly/36husBt
آب ستور|https://apple.co/3sZI7oJ

هواوي آب جاليري| https://bit.ly/3LRWFz5