أسماء إبراهيم

جُـحـر الفئران.. مصائد وأفخاخ

تاريخ النشر: الأحد، 19 مايو، 2024 | آخر تحديث:

الملصق الدعائي لفيلم جحر الفئران

استضافت سينما زاوية فيلم جُـحر الفئران وهو التجربة الروائية الطويلة الأولى لصانعه بعد تجارب فيلمية روائية قصيرة منها: موعد حياة وحدث بالفعل وبيت الرماية وساعة زمن وظل ونور. لا نعلم إن كانت الحماسة التي قوبل بها فيلم جُـحـر الفئران في عرضه المصري الأول نابعة من حساسية اللحظة الراهنة وتحدياتها أم للممكنات الجمالية التي قدمها الفيلم الروائي الطويل الأول لمؤلفه ومخرجه محمد السمان.

تابعوا قناة FilFan.com على الواتساب لمعرفة أحدث أخبار النجوم وجديدهم في السينما والتليفزيون اضغط هنا

تأتي أهمية هذا العرض لأنه ولأول مرة يكون الفيلم بين جمهوره الذي صُـنع من أجله رغم جولة ناجحة بين عدة مهرجانات دولية حصد منها حتى الآن تنويها خاصا لأفضل ممثلة من مهرجان عمان الدولي 2023. كما شارك في مهرجان البريكس بموسكو حيث حصلت رنا خطاب على جائزة أفضل ممثلة، ولا زال يخوض المنافسة حاليا فى مهرجان السينما الإفريقية بالمغرب بعد مشاركته في مهرجانات طرابلس (لبنان)، وبعد عرضه العالمي الأول بمهرجان أسوان لأفلام المرأة في مارس 2023.

محمد السمان مؤلف ومخرج فيلم "جحر الفئران"

قضايا كبرى وموضوعات شائكة من قبيل آثار التضخم على المجتمع وتآكل الطبقة المتوسطة بشرائحها المختلفة والحد الأدنى للأجور وصعوبات العمل في القطاع الخاص والحق في مسكن لائق وآمـن وآدمي واشتراطات التمويل العقاري والحق في حياة كريمة يتناولها جُـحر الفئران، لكن أي من هذه الموضوعات لا يُؤتـى على ذكرها صراحة أثناء الفيلم وإن لازمت مشاهديه بعد رؤيته حيث تورطنا مع أزمة بطلته حين علقنا مع خلود في مقر عملها حيث تعمل بإحدى الجمعيات الخيرية لجمع التبرعات هاتفيا للحالات الإنسانية بالغة الاحتياج. تسعى خلود للحصول على سلفة عاجلة وضرورية من مكان عملها ينبغي توفيرها في غضون يوم واحد؛ فيشترط عليها رئيسها أن تجمع تبرعات بقيمة 20 ألف جنيها لإقراضها المال وفي يوم وليلة يكون عليها أن تستميت لتحصيل المبلغ المحدد.

تحت الحصار

نتابع مكالمات التبرع التي تجريها زميلات خلود في "الكوول سنتر" والتي لا يكسر رتابتها أي تنويع أو تلوين أو حتى اختلاف بسيط. نبرة واحدة وجمل محفوظة لا تخرج عن الطفل الذي يحتاج لزراعة قوقعة أذنه أو السيدة العجوز التي تحتاج لغسيل كلوي. نتابع المتصلات حول خلود التي تحاول تقليدهن وإعادة كلامهن للمتبرعين الذين تتصل بهم بدورها. ومعهن نكون في دائرة من التكرار المقصود حـد الملل. لا خيال ولا فرصة للتغيير فلا سبيل للفكاك من تلك الدائرة وكأنه حتم على شاغلات مقر الجمعية. فالتكرار اللانهائي للمكالمات هو مصيدة أخرى ومكيدة نقع فيها أيضا معهن.

يبدأ الفيلم بمحاولات عامل البوفيه في الجمعية لاصطياد فأر كان قد لاحظ وجوده فيقوم بتحضير مصيدة له في مقاربة بين الفأر وبين خلود العالقة بدورها في هذا الجُـحـر. فهي الأخرى بحاجة للنجاة هي وأمها وأختها بتوفير مقدم لشقة بنكية يتوجّب سداده في الغد. وفي سعيها لتكملة المبلغ المحدد نتابع شخصيات حولها سواء صديقتها التي تسعى لتوفير فرصة عمل أفضل لها، أو أختها التي تتابع معها الإجراءات البنكية وتجميع المبلغ المالي المطلوب، أو الأهل الذين يرفضون إقراضها أو يسخرون من طموحها المشروع.

رنا خطاب بطلة فيلم "جحر الفئران"

وعلى صعيد آخـر تستميت خلود في عملها لتجميع مبلغ التبرعات المطلوب فنجد عملاءها الذين تهاتفهم لحثهم على التبرع يمثلون شرائح المجتمع بكامله سواء أكانوا بسطاء أو مطحونين أو حتى أنـذالا، كل هؤلاء نتعرف عليهم فقط بحضورهم الـصـوتـي الطـاغي، ولعلها أحد التحديات الفنية التي خاضها بإقتدار محمد السمان مخرج العمل، فتصميم شريط الصوت من أميز ما في الفيلم حين يستحضر هذه الشخصيات على غياب صورتها المادية وحضورها السمعي فقط، فنتلمس إدارة الممثل صوتيا بخلاف جدارة رنا خطاب الممثلة الرئيسية التي تصدت لمسئولية البطولة فكانت على قدرها.

لا تنجح خلود إلا في تحصيل 19 ألفا فقط فتُهدد بخيبة أمل بعد يوم من العمل المضني والإهانات الجارحة والعروض اللا أخلاقية المُذلِّـة التي تتلقاها عبر الهاتف. ولا تأتي النجاة لها إلا بخياننها للأمانة وبيع وثائق الجمعية التي تقع مصادفة تحت يدها لشخصٍ يعرض عليها إقراضها الـسبعة آلاف لو أمدته بكشف سري يخص مدير الجمعية حتى يتمكن من كشف فساده، فيساومها العميل الأخير مقابل المبلغ المنشود. لتأتي انفراجة النهاية كي تطمئن المشاهد على خلود. عادةً لا تحمل الحياة نهايات سعيدة كنهاية الفيلم الذي أتى بحلٍ لأزمة البطلة، ولا تمثل هذه النهاية تزييفا للواقع أو لوعي المشاهد؛ بل هي نهاية بعفوية وصدق وبراءة وطموح صناع الفيلم الذي يشبههم.

ندوة عقب عرض فيلم "جحر الفئران" بسينما زاوية

الفيلم واعد كتجربة روائية لصانعه ورغم سمات البكارة الفنية به (حين يخيل إليك أنه ربما كان فيلما قصيرا تم تطويره ليصبح طويلا) إلا أننا نلمس فيه روحا شبيهة بأفلام موجة الواقعية الجديدة إبان الثمانينيات في السينما المصرية (خان والطيب وداود وخيري) ويتماس حسه الإبداعي وموضوعه مع أفلام كل من المخرج المصري عاطف الطيب أو الإنجليزي كين لوتش بنقدهما الإجتماعي وحساسيتهما نحو مشاكل مجتمعهما، لكن تغريدة السمان الأولى وتحليقه الفني يأتي -بخلاف توجهه الإجتماعي- برهانه على براعته الفنية في سرد قصة في مكان واحد وبعدد ممثلين محدود ومدى زمني قصير لتناول موضوع حيوي ومعاصر ممزوجا بالكوميديا والمفارقة تخفيفا لوطأة المشاكل وحدّتها.

جنود خفية

المكان المختنق عــزز من ارتباطنا ببطلته وتهيئتنا للالتصاق الدائم معها في هذا المكان عبر عدسة محمود النمر الضاغطة وكادراته المختنقة والتي ضمنت شعورا بالتورط وكأننا رهائن تم اصطيادهم في هذا المكان. ولم يكن السمان ليتجاوز تحدي المكان الواحد والمدى الزمني المحدود وقلة عدد الممثلين لولا الإيقاع المنضبط والمتماسك لوائل أرباب مونتير الفيلم وأحد مفاجآته الخفية.

وائل أرباب مونتير فيلم "جحر الفئران"

فيلم طازج بكم الشباب العاملين فيه والذين ضجت بهم قاعة العرض، عاكسين رحلة طويلة يشق بها الحالمون طريقهم ليلهموا الغير بإمكانية الإفلات من مصيدة أخرى تتمثل في قلة الإمكانيات وشبح النُدرة وصعوبات الانتاج والتمويل في السينما المصرية. والفيلم الذي لم يُختبر حتى الآن في شباك التذاكر رغم جودته الفنية ورواج موضوعه يطرح تساؤلا: هل تجتذب أفلامٍ بحس نقدي إجتماعي جمهور السينما؟ وهل توزيع أفلام كهذه يعتبر واعدا؟ ربما نجد الاجابة عند شركة مـاد سوليوشن التي تحمست له وتصدت لتوزيعه وإيصاله للجمهور العام.

ختاما.. حملت الفئران الطاعون فأبادت قرى وحواضر، وارتبطت "أوضة الفيران" كوسيلة عقابية خيالية في لاوعينا الجمعي، والفأر الذي لازم بطلة فيلمنا كُـتبت له النجاة (للمفارقة) بعد ليلة قضاها في المصيدة وقضتها بطلتنا في مقر عملها. فئران وبشر حبيسو جحورهم ومواقعهم وربما أقدارهم.