في بداية عام 1949 وقع خلاف فني وقانوني بين كوكب الشرق، أم كلثوم، والإذاعة المصرية، وصلت أصداءه إلى الصحافة المصرية.
وقصة الخلاف أن الإذاعة طلبت من أم كلثوم أن تقوم بتسجيل حفلاتها الشهرية وأن تحتفظ بها لتكون تراثا مسجلا لكوكب الشرق وقت أن تقرر اعتزال الغناء، وكان طلب أم كلثوم الوحيد هو أن تختار بنفسها الأشرطة التي سوف تذاع، وما ترى أنه الأصلح والأنسب.
من الأرشيف- الأسباب التي أغضبت أم كلثوم من رجال باريس ... حوار من 89 عاما
لكن الإذاعة عادت وطلبت من أم كلثوم أن تذيع كل الحفلات التي تم تسجيلها فورا، وهو ما رفضته، وهددت الإذاعة أن تقوم بمحو الشرائط لاستعمالها في تسجيلات أخرى، فعرضت أم كلثوم أن تقوم بشراء أشرطة جديدة تستعملها الإذاعة، وهو ما تم رفضه.
واعتبرت الإذاعة المصرية أن ما تم تسجيله هو من حقها وحدها، فقامت - دون اتفاق مع كوكب الشرق - بالبدء في إذاعة الحفلات، وهو ما رفضته أم كلثوم رفضا قاطعا.
أكثر من ذلك نشرت صحيفة "البلاغ" خبرا عن أن السبب الرئيسي في الخلاف بين أم كلثوم والإذاعة المصرية خلافا ماليا، حيث رفض مدير الإذاعة المبلغ الذي اقترحته مقابل إذاعة أغانيها.
ولم يتوصل الطرفان إلى اتفاق!
قضية كتلك - وبسبب مكانة أم كلثوم - كان لابد أن تستحوذ على اهتمام كثيرين، وهو ما كان بالفعل.
لكن ما حدث هو أنها أخذت جانبا آخر، تسبب في شبه معركة صحفية بين الكاتب الصحفي الأشهر محمد التابعي، وبين الكاتب المتعدد المواهب عبد الرحمن الخميسي.
وما حدث أن التابعي - بحكم اهتمامه الكبير بأم كلثوم كفنانة مبدعة، وبحكم صداقته معها - كتب (في عدد 2 فبراير 1949 من مجلة آخر ساعة) تعليقا على القصة، أخذ فيه جانب كوكب الشرق، نافيا أن يكون السبب خلافا ماليا، بل هو إخلال الإذاعة بما تم الاتفاق عليه مسبقا، وأكد أن أم كلثوم قبلت ما اقترحته المسئولون مقابلا ماليا لها ولم تناقشهم فيه، وهو 40 جنيها عن الشريط الواحد، وليس 800 جنيه كما صرح مدير الإذاعة، وكان طلبها الوحيد هو أن يذاع شريط كل أسبوعين، لا ستة أسابيع كما أرادوا.
إلى هنا يمكن - بكل الأشكال - قبول ما كتبه التابعي، ليس فقط بحكم صداقته بأم كلثوم، وإنما كصحفي متابع ومهتم، حصل على معلومات وقدمها للقارئ، يقبلها أو يرفضها.
لكن الذي حدث هو أن الكاتب الكبير عبد الرحمن الخميسي أخذ القضية لبعد آخر تماما.
(في عدد يوم 16 فبراير 1949 من جريدة المصري) كتب مقالا طويلا بعنوان: "بين الإذاعة وأهل الطرب .. الأغاني في السوق السوداء"، بدأه بـ: "نشر الأستاذ التابعي كلمة عن موقف أم كلثوم من الإذاعة أفلح بطريقة كتابتها وبالمغالطات التي بلفها في أثواب الحقائق وبعرضه السهل الرشيق أن يصوغ من العدم صورة لتعنت الإذاعة مع المغنية الجميلة".
يوضح الخميسي: "إن الإذاعة أداة خطيرة في يد الدولة، يجب أن تستغلها لصالح الأمة، إن لكل صوت يتسرب من الميكروفون إلى آذان الناس تأثير في نفوسهم. إن الإذاعة تخلق عقلية القطيع، ولذلك ينبغي -ما دامت الحياة سائرة إلى العقلية الجماعية- أن نحسن اختيار المواد الإذاعية التي تتألف بها تلك العقلية".
ويعيب الخميسي على التابعي اهتمامه الكبير بـ"شخص" أم كلثوم دون النظر إلى القضية الأهم، وهو دور الإذاعة، يقول: "لم يتعرض التابعي في دفاعه عن أم كلثوم لهذه المعاني ولم يحاول مناقشة طريقة غنائها التي يحبها الشعب، ولا أن يحدد تأثير ذلك الأسلوب في نفوس الناس. لم يفعل شيئا من ذلك لأسباب أظنني أجهلها. أقول ذلك لأن الكاتب الكبير اختص بالكتابة عن مشكلة أم كلثوم دون النظر إلى أسلوب الغناء المصري، الذي -تحت ضوء العلم والفن والتحليل- مُعطِل لازدهار الوجدان، فهو يقف عند مرحلة الطرب ولا يتعداها، لذلك وجب على محطة الإذاعة الحد من انتشار أسلوب الغناء الحالي، وأن تعمل على تحريره، وأن تساهم في انتقال الموسيقى المصرية من الطرب إلى مرحلة الفن الرفيع".
والفن الرفيع في نظر الخميسي هو: "اقترحت على مدير الإذاعة أن تذيع بين الفترة والأخرى سيمفونية أو كونشيرتو أو عملا من الأعمال الموسيقية العالمية، فالإذاعة ليست محلا تجاريا أو مقهى عام يقدم للناس ما يشتهون".
ويقول الخميسي عن التابعي: "إن الأستاذ الكاتب يتأثر بالوفاء -بحكم حياته الاجتماعية- وصداقته الطويلة بالآنسة المغنية على حساب دوره كصحفي".
بطبيعة الحال -ومع كل تلميحات الخميسي في مقاله- كان على التابعي أن يرد، وبالفعل كتب في (عدد يوم 23 فبراير 1949 من مجلة آخر ساعة) مقالا طويلا منفصلا عن مقاله الإسبوعي المعتاد تحت عنوان: "صحفي مصري يدعو إلى الموسيقى العالمية. قال فيه: "تطوع الأستاذ الأديب الخميسي بالرد على كلمتي في قضية أم كلثوم والإذاعة المصرية، فراعني ما راعني من غزارة العلم والمادة والأدب وسعة الإطلاع، حتى لقد أغرقني الزميل الكريم في بحر واسع من علمه وأدبه. نعم لقد أغرقني وردني لأيام طفولتي وشعرت أنني طفل صغير آخذه أستاذه من يده وراح يهزني ويذكرني بأننا الآن في مفترق طرق بين أسلوبين وجيلين مختلفين".
أما لماذا فعل الأستاذ الخميسي بالتلميذ التابعي لأن "أم كلثوم طلبت أن يذاع لها شريط مرة كل أسبوعين وليس ستة أسابيع".
وبعد استعراض كل ما لمح به الخميسي: علاقة الصحفي بالآنسة المغنية ومشاكل الغناء المصري وغيرها، يكتب التابعي يقول: " في واقع الأمر فإن ما يدعو إليه الزميل الأديب ليس "الموسيقى العالمية" بل الموسيقى الإفرنجية، تماما كما فعل أتاتورك في تركيا، فلم يكن السبب هو سوء أو ترهل الغناء الشرقي بل رغبة الزعيم التركي في قطع الصلة مع التراث الشرقي كما كان في دولة العثمانيين".
ويسخر التابعي قائلا: "لا أفهم لماذا لا يمشي الأستاذ الخميسي في منطقه ويطالب الحكومة حل معهد فؤاد الأول للموسيقى الشرقية، طالما أنها تعطل نماء الوجدان وازدهاره، وهو كما يقول له في ذلك بحوث ومقالات".
يستطرد التابعي: "للأسف المساحة المخصصة لي في المجلة صغيرة، وإلا كنت استطعت الرد على أستاذي الخميسي نقطة نقطة وأرد التحية وأحدثه عن نقد صالات التمثيل. ولكن أما والأستاذ يدعو لتغذية الفهم العام، أو الطفل العام، بروائع الموسيقى العالمية، فلماذا لا يدعو لتغذية نفس الطفل بروائع التمثيليات العالمية، لشكسبير مثلا أو إبسن. أم ترى أن غناء وموسيقى أم كلثوم وعبد الوهاب وليلى مراد وفريد الأطرش وزكريا أحمد والسنباطي والقصبجي هى وحدها التي لا تتطاول إلى موسيقى ڤاجنر وشوبان وباخ وبيتهوفن، بينما تمثيليات الأستاذ الخميسي والسيد بدير هى وحدها التي تقف على قدم المساواة مع تمثيليات شكسبير وإبسن".
و... بحثت كثيرا عن أي رد من عبد الرحمن الخميسي على محمد التابعي فلم أجد، كما لم أجد أية أخبار عن مصير قضية خلافات أم كلثوم والإذاعة المصرية، وإن كانت بالتأكيد انتهت لصالح "الآنسة المغنية"!
اقرأ أيضا للكاتب:
معركة "البكوات" عن التأليف والاقتباس والسرقات!
حكايات من الأرشيف- قبلة من الفنانة كاميليا بـ90 ألف جنيه و10 سنوات في السجن
حكايات من الأرشيف - وهكذا وُلدت أغنية "عاشق الروح"!
لا يفوتك: #الباشكاتب_عزت_أمين في حوار بـ زووم مع رؤوف السيد مخرج فيلم #الحريفة
حمل آبلكيشن FilFan ... و(عيش وسط النجوم)
جوجل بلاي| https://bit.ly/36husBt
آب ستور|https://apple.co/3sZI7oJ
هواوي آب جاليري| https://bit.ly/3LRWFz5