"وداعًا جوليا" السلام لا يصنعه إلا الأحرار

تاريخ النشر: الجمعة، 2 يونيو، 2023 | آخر تحديث:
فيلم وداعا جوليا

أثار عرض الفيلم السوداني "وداعًا جوليا" للمخرج محمد كردفاني ضمن برنامج "نظرة ما" في مهرجان كان السينمائي موجة من الإعجاب والإشادة، صحبها أجواء احتفالية بميلاد موهبة تأليفية وإخراجية واعدة، استحق بها كردفاني أن يسجل باسمه تواجد السينما السودانية للمرة الأولى في تاريخها بفيلم في كان. وبتواضع جم، قدم كردفاني العرض الأول لـ "وداعًا جوليا" معبرًا عن امتنانه لزملائه من طاقم الفيلم الذين لم يستطيعوا الحضور بسبب عدم حصولهم على التأشيرة، منتقدًا ما يتعرض له المبدعين من تضييق غير لائق على حقهم في الانتقال، كما أهدى الفيلم لجموع الشعب السودان مؤكدًا ثقته بأنهم سيكونون المنتصر في النهاية رغم أنف الرجعية وقوة السلاح.

بطولة "وداعًا جوليا" نسائية التشكيل، نسوية الاتجاه، إذ اختار كردفاني أن تكونا منى (إيمان يوسف) وجوليا (سيران رياك) معبرات عن الشمال والجنوب في صورتهما المسالمة، في تأثر واضح لكردفاني بالموروث الخاص بتمجيد النساء بوصفهن صانعات للسلام ومدافعات عن الحرية، والأمثلة على ذلك في التاريخ الإفريقي متعددة بالفعل.. بدءًا من حتشبسوت مرورًا بـ نزنجا مباندي وليس انتهاءًا بـ إيلين جونسون. وذلك في مقابل اندفاع الذكور، والذي يؤدي في أغلب الأحيان إلى زيادة الأمر تعقيدًا وأخذ الموقف إلى أبعاد دموية، إذ ورطت الأفكار الرجعية والاستعلاء العرقي أكرم (نزار جمعة) في إزهاق روح بريئة بسبب مجرد سوء فهم، وستدفع رعونة ماجير (جير دواني) في اتجاه دوامة لانهائية من العنف يتوارثها جيل تلو الآخر. بيد أن كردفاني لم يعهد إلى نماذجه النسائية بالوداعة المطلقة، بل يظهرهن مؤثرات للحزم وأحيانا يلجئن إلى المقاومة باليد إذا ما حاول أحدهم انتهاك كرامتهن أو جسدهن، فلا تتردد منى في دفع الشرطي الذي قبّلَها خسةً ولا في أن تعنفه وتحذره من ابتزازه لها، بل وأيضًا تتمنع منى عن زوجها تأديبًا له إذا ما تمادى في غيرته عليها إلى درجة الشك في سلوكها، كذلك تدفع جوليا بعنف يد المتحرش في الحافلة، وتدفع عنها في عنف عصا الشرطي بإباء حر، وتقف بقوة مدافعة عن أكرم أمام ماجير وأفراد الميليشيا المسلحين.

بشرت المشاهد الأولى من "وداعًا جوليا" ببناء درامي محكم للأحداث، سيتوازى فيه مصائر الشخصيات مع مصير الوطن، حيث يشابه مشهدا الظهور الأول لكل من منى وجوليا على حدة، فالاثنتين في مشهدهما الأول تقومان بإعداد الفطور لأزواجهن شاردات الذهن في المجهول الذي بدأ في أول أغسطس 2005 عقب سقوط مروحية زعيم الجبهة الشعبية لتحرير السودان جون قرنق. كذلك، وعقب اشتعال أحداث العنف، ينتقل سانتينو (ستيفانوس جيمس بيتر) بزوجته جوليا وطفلهما دانيال إلى منطقة أكثر فقرًا فيظهر في الخلفية صوت رجلان يبتاعان الرصاصات عند باب المأوى الصفيح فيتجنبهما سانتينو أثناء مروره بهما ثم يتم القطع إلى مشهد لأكرم وهو يتدرب على استخدام البندقية، لتبدو بوضوح إرهاصة المصير العبثي لسانتينو الذي سيلقى حتفه برصاصة من بندقية أكرم؛ وهنا تجدر الإشارة إلى حرفية تصميم الصوت الذي قامت به رنا عيد في نهاية مشهد سانتينو الذي وضح به صوت رنة تشبه ارتطام الرصاصات ببعضها، ثم في بداية مشهد تدرب أكرم على استخدام البندقية الذي وضح به صوت تعمير السلاح بالرصاصات، وبين المشهدين يتميز بالطبع التوليف المتقن للمونتيرة هبة عثمان.

كذلك، التكوينات البديعة لكردفاني تارة تحمل رمزيات معبرة وتارة أخرى تقدم إرهاصات دالة، فعقب صدمة منى بحادث مقتل سانتينو يحاول أكرم الترفيه عنها بإهدائها قفص به عصفورين، فتوليه ظهرها إلى قضبان الشباك التي تشبه قضبان القفص، في إشارة بصرية لشعورها بالسجن وإرهاصة بأن هناك من ستشاركها إياه. وفي مشهد قلة حيلة جوليا في أن تجد زوجها فتخر باكية على باب الكنيسة متخذة وضع الجنين، ليتم القطع على وضع الجنين الذي تتخذه منى أيضًا في جلستها من فرط شعورها بتأنيب الضمير. نشاهد كذلك مشهد احتراق المخيم الصفيح الذي أعقب مغادرة جوليا لمنزل منى بعد انتهاء يوم العمل، تظهر جوليا وأمامها النيران وسيارات تهرول في مشهد فوضوي يمثل شارة بصرية بديعة أنه لم يعد هناك ملاذًا آمنا لجوليا وطفلها إلا في بيت منى. ولم تقتصر الجرعة البصرية في «وداعًا جوليا» على دلالة التكوينات فحسب، لكن أيضًا على روعة الإضاءة الدرامية لمدير التصوير بيير دي فيلير، إذ أن معظم إضاءة المشاهد الداخلية تأتي من الخارج يمكن قراءة دلالتها كإشارة لعمق تأثير البيئة الخارجية والأوضاع في الشارع على وتيرة حياة الشخصيات، كما يظهر التفاوت بين إضاءة منزل منى وأكرم التي كان يغلب عليها القتامة قبل انتقال جوليا للعيش في المنزل ثم الإضاءة الهادئة والحميمة التي أصبح عليها المنزل بعد استقرارا جوليا معهم وكأنها وطفلها طاقة سلام حلت على المنزل بمن فيه.

يُخلص كردفاني إلى موتيفاته التي لا يكتفي بدلالاتها الرمزية فقط، بل يتعدى إلى استخدامها في تحريك الأحداث وتصاعدها الدرامي، فالأكياس التي اشترتها منى من جوليا وكانت حجة لبدأ الحديث بينهما أصبحت دليل إثبات لجوليا أن تعارفها بـ منى لم يكن من قبيل الصدفة، والقفص الذي حمل إرهاصة لقدوم جوليا وطفلها دانيال إلى منزل منى يعود ثانية في المشهد الذي تلا احتراق المخيم الصفيح ومنى تقوم بإطعام العصفورين في إشارة واضحة أنها ستولي عناية كاملة بجوليا وطفلها؛ ولا تنتهي تلك الموتيفات عند دراجة الأب البخارية، التي كانت من مفردات البراءة لدى دانيال الطفل أصبحت بعد أن اكتشافها في منزل الجار من مفردات الرغبة في الانتقام عند دانيال المراهق.

يقدم "وداعًا جوليا" في دراما رقيقة خطابه السياسي المنحاز إلى الحرية وإلى التنوع، فالتنوع ليس واجهة دعائية للأنظمة المتباهية باحترامه، بل إنه صيانته ضمانة للأمان المجتمعي، إذ يغلب الخوف منى من أن تغني بالمطعم الذي يمكن أن يرصدها فيه أي من معارف أكرم فيبطش بها إذا علم أنها غنت دون رغبته، لكن الكنيسة التي لا يرتادها سوى الجنوبيين كانت ملاذًا أمنًا لم تتردد منى أن تغني فيه وتعود لتنمية موهبتها، فلا يكن بوسع المشاهد إلا الشعور بمرارة دموع منى التي تذهب إلى الكنيسة بحثًا عن جوليا فتجد باب الكنيسة موصد إذ فُرض عليها أمر مصادرة.

يُحسم الاستفتاء لصالح لانفصال بين الشمال والجنوب، فالانفصال نتيجة منطقية للصلح عندما يكون دون صفح، بحسب جدلية عميقة وموضوعية صاغها كردوفاني في أحد محاورات جوليا وماجير حول حتمية الانفصال من وجهة نظر ماجير. ذلك الانفصال الذي عبر كردفاني عن حجم مأسويته بأن جعلها لحظة لم ينفصل فيها الشمال والجنوب فحسب، بل لحظة انفصل فيها الصديقتين، والزوجين، والحبيبين، وحتى الأم وابنها.

يثير كردفاني من خلال "وداعًا جوليا" عدة جدليات لا يمكن التعرض للشأن السوداني بعمق دون طرقها، وهي في ذات الوقت تتسع لتشمل كل البلاد التي تعيش ظروف مشابهة تتعلق بتعرضها للانفصال أو يخيم عليها من حين لآخر شبح الحرب الأهلية. فمن جدلية الصلح والصفح بين جوليا وماجير، هناك جدلية العنصرية المكرسة في المجتمع التي دارت ذات ليلة بين منى وأكرم والتي تنتهي عمليًا بتحرك منى في التو واللحظة إلى المطبخ لتزيل بإصرار العلامات التي وضعتها على الأواني المخصصة لاستخدام جوليا وطفلها. وكذلك جدلية مشروعية التواطؤ بالصمت، والتي مارستها كلا من منى وجوليا طوال الأحداث والتي انتهت بمشهد قوى وبديع كان درة التاج للآداء البديع التي تألقتا فيه كل من إيمان يوسف وسيلان رياك والذي أظنه سيفرض المناصفة بينهن في كل جوائز أفضل ممثلة التي سيترشح لها الفيلم.

استغرقت صناعة "وداعًا جوليا" أكثر من 3 سنوات كان بالطبع ليستغرق أكثر منها لولا الإنتاج الذكي سديد التخطيط للمنتج أمجد أبو العلاء، إذ تحرك برشاقة بين عدد من أهم صناديق الدعم في المنطقة وخارجها يذكر منها منصة سينيجونة وصندوق البحر الأحمر ومهرجان مالمو للسينما العربية، وفي تلك الرحلة استطاع جذب أكبر عدد من المنتجين المشاركين من مصر والمملكة العربية السعودية وألمانيا وفرنسا والسويد، لتتكلل تلك الإنجازات بحصول الفيلم على جائزة الحرية التي استحقها بجدارة. إن فيلم "وداعًا جوليا" يعد بلا شك مصدر فخر لكل من عمل على إنجازه حتى خرج بهذا الشكل الجمالي والصادق، والعميق والأصيل والمشرف.

اقرأ أيضا:

منير الوسيمي يرد على مصطفى كامل بالمستندات: قضيتك خسرانة.. سيب الصندوق يتكلم

عمرو أديب ولميس الحديدي يتألقان بحفل زفاف ولي العهد الأردني (صور)

منة فضالي: لم أتعرض للتحرش من قبل.. واتجوزت بالعِند في أمي (فيديو)

قناة مجانية تنقل نهائي دوري أبطال إفريقيا بين الأهلي والوداد

لا يفوتك: تحليل النغمات مع عمك البات: تقييم أغنية "بعلنها" لهيثم سعيد


حمل آبلكيشن FilFan ... و(عيش وسط النجوم)

جوجل بلاي| https://bit.ly/36husBt

آب ستور|https://apple.co/3sZI7oJ

هواوي آب جاليري| https://bit.ly/3LRWFz5