في "بنات ألفة": شخصية واحدة تجسدها امرأتين، وكل الرجال يجسدهم ممثل واحد.
تلك الملاحظة الشكلية جدًا على فيلم المخرجة التونسية كوثر بن هنية، يمكنها أن تكون إشارة مفتاحية لقراءة هذا العمل المختلف الذي قاد مخرجته للمرة الأولى إلى مسابقة مهرجان كان، ولفهم أبعاد المغامرة التي تقدم عليها بن هنية، صانعة الأفلام التي أكدت أفلامها السابقة قدرتها على الجمع بين نقيضين: التجريب والتصميم الحاذق.
ففي كل فيلم تحاول بن هنية أن تختبر أدوات الوسيط السينمائي غير الاعتيادية، فتخلق وثائقيًا زائفًا في "شلاط تونس" وتستخدم اللقطة المشهدية في "على كف عفريت" وتضع الشخصية في مواجهة الزمن في "زينب تكره الثلج"، وغيرها من المغامرات الشكلية التأسيسية في كل فيلم على حدة. لكنها في الوقت نفسه تفعل ذلك بقدر واضح من الوعي، محاولة الوصول لقدر من الاتزان يجعل التجربة الأسلوبية وسيلة للتمايز عن الأفلام الأخرى، دون أن يتسبب الانغماس فيها في تفريغ الفيلم من مضمونه لحساب الشكل. يختلف قدر نجاح بن هنية في تحقيق هذا التوازن من فيلم لآخر، لكنها تظل السمة التي تمنحها فرادتها مقارنة بأغلب صناع السينما العربية المنقسمين إجمالًا بين أسلوبيين مهووسين بالشكل، ومناضلين غارقين في المضمون.
أعقد التجارب
تُقدِم كوثر بن هنية في "بنات ألفة" على تجربتها الشكلية الأكبر على الإطلاق، ربما لأنها وجدته اختيارًا ملائمًا للتعامل مع قصة واقعية شوهدت كل تفاصيلها الدرامية في أفلام سابقة، تونسية تحديدًا، فلدينا امرأة شعبية تترك زيجة فاشلة لتدخل علاقة غير شرعية ("نورة تحلم")، تربطها علاقة معقدة ببناتها المراهقات ("على حلة عيني")، تنضم اثنتان منهم إلى داعش ("زهرة حلب" / "ولدي")، ناهيك عن كون ألفة بالأساس امرأة مقهورة شبّت وتزوجت داخل واقع ذكوري عنيف (نصف الأفلام العربية تقريبًا).
نرشح لك: مهرجان كان يراهن ضد الصوابية بفيلم الافتتاح "جان دو باري"
حكاية ألفة عمومًا تصب في إطار التوقعات، يمكن أن يقدمها مخرج آخر في وثائقي تلفزيوني تعرضه إحدى المحطات الإخبارية، لكن ما جعل منها فيلمًا يستحق العرض في أكبر مسابقة سينمائية في العالم هو قرار المخرج أن تأخذ الحكاية إلى حيز التجريب، فتختبر الوسيط السينمائي عبر المزج بين الواقع والخيال، بين ألفة وبديلها السينمائي (هند صبري)، وبين البنتين الأصغر والممثلتين اللتين تلعبان دوري الشقيقتين الأكبر (إشراق مطر ونور القروي).
يتحول منزل ألفة مسرحًا لتجربة أدائية غير معتادة في السينما العربية، تتلاقح فيها الذاكرة مع التجسيد، الحكي مع التقمص، وتحاول بن هنية السير على الخط الرفيع الفاصل بين رؤية الإنسان الذاتية وتفسيره لما دار في حياته من وقائع، وبين رغبة فنان في تحليل تلك الوقائع للخروج بصورة درامية مُقنعة. الغريب أن مخرج آخر عالمي هو الأمريكي تود هاينس قرر اختبار مساحة مقاربة في فيلمه "مايو ديسمبر" الذي اختارته إدارة كان للمسابقة أيضًا، بل وقررت عرض الفيلمين في ليلتين متتاليتين، وهو قرار برمجة مدهش يخلق مستوٍ آخر من المقارنة، ويُعمق السؤال الرئيسي في فيلم هاينس والفرعي في فيلم بن هنية، سؤال إمكانية الإلمام بحقيقة الإنسان، أي إنسان.
مطاردة المستحيل
يحاول المبدع دومًا إقناع نفسه والعالم بامتلاك القدرة على الرصد والتحليل والتعبير، على هضم ما جرى ومعالجته ليخرج في صورة رواية أو فيلم أو أداء تمثيلي، بينما يفاجئنا البشر باستمرار بقدرتهم على مخالفة التوقعات وعدم الالتزام بأي نمط سلوكي أو فكري مهما بلغت دقته. وكما تحاول ناتالي بورتمان في "مايو ديسمبر" أن تفهم الشخصية التي تلعبها جوليان مور، يكمن تحدي هند صبري في "بنات ألفة" في إمكانية تفسير وهضم هذا القدر الهائل من التناقضات التي تعج به نفس ألفة الحمروني.
ألفة شخصية درامية بامتياز، يمكن بسهولة تصور وقوع أي ممثلة في غرام فكرة تجسيدها، لكن ما يصعب قبوله وما يجب تحية هند صبري عليه، هو الموافقة على قرار المخرجة بأن تحضر ألفة الحقيقية وألفة الدرامية معًا على الشاشة. الحضور المتزامن الذي سيسفر حتمًا عن كون النجمة ظلًا للشخصية الحقيقية؛ ليس لعجز هند صبري عن تجسيد تعقيد ألفة، وإنما لأن ما تثبته التجربة أن كل محاولات الفهم الحاذقة ستصطدم في النهاية بصخرة واقع تتصرف فيه الشخصية بصور تعجز نفسها عن فهمه أو تفسيره.
قد تُغري ألفة من يحاول التظاهر بالمعرفة فيضع تصورات حول أثر صعوبات النشأة وذكورية المجتمع في تكوينها، وكيف تحولت الضحية مع الوقت جلّادًا. تفسير يدعمه الاختيار المذكور في العبارة الأولى من هذا المقال: أن يلعب مجد مستورة كافة الرجال في حياة ألفة، فهو زوجها وعشيقها والشرطي الذي رفض مساعدتها، باختصار هو الذكر بالمعنى المطلق، صاحب حقوق الرعاية والرفاهية والليلة الأولى والاستغلال الجسدي والنفسي دون أن يترتب على تلك الحقوق أي مسؤوليات.
إلا أنه يظل تفسيرًا قاصرًا، يسيء إلى ألفة (والمرأة) في معرض التعاطف معها، باعتبارها كيانًا سلبيًا، رد فعل لما فعله الرجال بها. التفسير يغفل أيضًا النصف الثاني من الاختيار: تكسير المرأة الواحدة لأكثر من صورة، فلدينا ألفة وهند التي تجسدها، ولدينا صور البنتين الهاربتين والممثلتين اللتين تحاولان استنساخهما، وحتى بالنسبة للشقيقتين الصغرتين اللتين لا يجسدهما شخص آخر، فإن الفروق الهائلة في الشكل وطريقة الحديث ونمط الحياة بين ما هن عليه وقت تصوير الفيلم وما كن عليه قبل سنوات تُعد على أصابع اليد الواحدة، فروق ترسخ فكرة التكسير ذاتها، وكأن بن هنية تؤكد أن من الاستحالة بمكان أن يتم تلخيص أي من هؤلاء النساء في صورة واحدة، حتى وإن كانت هذه الصورة هي النسخة الحالية الحقيقية من الشخصية.
رحلة استكشاف الوجوه
نتوقع أن يُكتب الكثير عن موضوع "بنات ألفة"، عن قهر المرأة في المجتمعات العربية وما يترتب عليه من تبعات كارثية على الفرد والجماعة، وعن العلاقة بين النساء وبعضهن والتي تكون أحيانًا وسيلة للسلوى والاحتماء وأحيانًا أخرى ذات آثار تشويهية يصعب علاجها. لكن يبقى أفضل ما في الفيلم، وما نعتبره النجاح الأكبر لكوثر بن هنية في تجربتها الجديدة هو إدراكها أن نفوس بطلاتها أعمق وأعقد بكثير من أي تحليل أو تفسير.
تقبل المخرجة بشروط اللعبة، وتقبلها معها هند صبري والفتيات الأربع، لنخوض معهن رحلة استكشاف الوجوه المتعددة: هند تحاول أن تكون ألفة، ألفة تحاول أن تكون ألفة، وهند تحاول أحيانًا أن تكون نفسها، الممثلة المحترفة التي تسعى للوقوف على مسافة عقلانية من امرأة انفجارية حدد اندفاعها الهائل مصائر خمسة أشخاص على الأقل، وبين كل هذه المحاولات تسعى بن هنية أن تصيغ فيلمًا كبيرًا لا ينفصل فيه الشكل عن المضمون، فتتعثر قليلًا وتنجح في أغلب الأوقات.
يأتي التعثر في اللحظات المعدودة التي يُعجب الفيلم فيها بنفسه وبفرادته الأسلوبية، كالدقائق السابقة لانضمام الابنتين لداعش مثلًا والتي تدور بالأساس حول الشكل، بينما يتمثل النجاح في كل ما عدا ذلك، لاسيما في اللحظات التي نتورط فيها في التجربة، فننسى ولو قليلًا الفرق بين الشخصية والممثلة، متجاوزين الحائل البصري (اختلاف المرأتين) لمساحة قبول نصدق فيها فعلًا أن هند وألفة وجهان لجوهر واحد.
قد يفتقر هذا المقال للمحتوى التقليدي الذي يصف حكاية الفيلم بمزيد من التفصيل، وقد يراه القارئ منحصرًا في عنصر واحد من فيلم "بنات ألفة" الذي يمتلك أشياءً أخرى تستحق التحليل. لكنه ينطلق من إعجاب صادق بفنانة ناجحة جرأت على المغامرة، وبدلًا من الارتكان على الصياغات الاعتيادية التي قد تضمن لها مزيد من التحقق، قررت أن تغرد خارج السرب، لتمنحنا فرصة نادرة لأن نكتب مقالًا طويلًا عن عنصر واحد في فيلم عربي، وهو أمرٌ لو تعلمون فريد.
اقرأ أيضًا:
كان 76: كل ما تريد معرفته عن الأفلام العربية في أكبر مهرجان سينمائي
لا يفوتك: اسمع "عمك البات" قال إيه عن ليلة تكريم الموسيقار محمد الموجي بالرياض
حمل آبلكيشن FilFan ... و(عيش وسط النجوم)
جوجل بلاي| https://bit.ly/36husBt
آب ستور|https://apple.co/3sZI7oJ
هواوي آب جاليري| https://bit.ly/3LRWFz5