هذا ليس مقالًا نقديًا لمسلسل "الهرشة السابعة" ، اعتبره مجموعة من الانطباعات ناتجة عن تجارب واقعية تماست مع العمل.
شاهدت أول حلقة من مسلسل "الهرشة السابعة" ، لم يشجعني الإيقاع الهاديء جدا على استكمال المتابعة، حتى التفاصيل الأولية للشخصيات مهدت لمشاكل طبقة محدودة لا تشبه أغلب مشاكلنا، هذه الخصوصية الشديدة التي كانت عيبًا في بداية العمل تحولت إلى نقطة قوة في الحلقات الأخيرة، ودفعتني للعودة لمتابعة المسلسل منذ بدايته.
تلك القوة تحديدًا ظهرت عندما لامست مشاكل الثنائيات سواء آدم ونادين أو شريف وسلمى، واقع العلاقات الذي يعيشه الكثيرون وأنا منهم .
ميزان النسوية والذكورية
بالتأكيد شاهدت جزءا أو مرحلة من حياتك في الحوار الرائع خلال الحلقة التاسعة بين آدم ونادين، وبالتأكيد أيضًا شاهدت نفسك في مرحلة ما من خلال شخصية شريف ، هذه التفصيلة فقط هي التي منحت العمل قيمة فنية وإنسانية مضاعفة ، وأنقذته من التحول إلى مسلسل مكتوب من داخل "فقاعة" اجتماعية يسكن فيها كتاب وصناع العمل ، وهذا بالمناسبة أصبح سمة غالبة في أعمال ورشة "سرد" بقيادة السيناريست المخضرمة مريم نعوم التي أصبحت أغلب موضوعاتها الاجتماعية مصبوغة بطبقية لا تتماس مع غالبية شرائح المجتمع ، وهذه نقطة خلافية لا داعي لمناقشتها في هذه السطور .
تعامل المسلسل بميزان من ذهب في تناول النسوية والذكورية من خلال مواجهات الشخصيات الرئيسية ، لم تتورط المؤلفة دينا نجم في الانحياز للمرأة ، بل طرحت مخاوف وأفكار كلا الطرفين سواء المرأة أو الرجل ، حتى عندما عبرت نادين عن ألمها وارهاقها من إنجاب توءم ، كان في آدم في المقابل يطرح هو الاخر مخاوفه وضغوطه كزوج وأب مسئول عن توفير الأمان المادي لهذه العائلة.
هذه المناقشات المدفونة تحت رماد المعارك الزوجية اليومية هي بالنسبة للمشاهد المصري لاشيء ، آسف على قسوة الجملة والوصف ، ولكن في مجتمع يعاني من أزمات اقتصادية طاحنة ، لا مجال للرفاهية التي تعيشها هذه النماذج ، ولن تبني جسورا من التعاطف مع المشاهد الذي يرى في قائمة مخاوفه ماهو أبشع من امتعاض نادين لعدم قدرتها على الاستحمام بسبب طفليها الرضيعين !
جمهور العيادت النفسية
نحن جيل عرف الطريق إلى عيادات الطب النفسي والاستشارات الزوجية مبكرًا، ربما لأننا أكثر وعيًا من أجيال سابقة زرعت في نفوسنا ملايين العقد والأمراض ، ولكننا في ذات الوقت لم نجد المرجعية التي نبني من خلالها علاقاتنا العاطفية والزوجية ، ولكن للأسف هذا الإنخراط المبالغ في المصطلحات والتوصيفات النفسية حول الناس إلى "كتالوجات" متنقلة للمشاكل النفسية وتعليق الفشل الاجتماعي وربما الانحراف العاطفي والأخلاقي على شماعاتها .
على سبيل المثال تحولت شخصية "سلمى" أسماء جلال إلى بطل لأغلب منشورات وتغريدات الفتيات حول أزمة الثقة التي زرعتها العائلات في نفوس بناتها ، وجاء شريف ليداوي هذا الشرخ النفسي ويساعدها على التطور ، علمًا أن شريف نفسه يعاني من مشاكل نفسية عميقة لا تجعله أهلا للاحتواء أو التفهم ، وهذه في حد ذاتها ثغرة واضحة في بناء الشخصية، لكن مؤلفة العمل أرادت أن تبنى نموذجا لعلاقة نجحت وتجاوزت المصاعب رغم مشاكلهما النفسية ، ولهذا وجدا الحل في عيادة الـ couple therapy .
يؤسس المسلسل لثقافة جديدة انتشرت في المجتمع وهي اللجوء للاستشاريين والمتخصصين في علم النفس ، صحيح أن هذه الثقافة مازالت مرتبطة بطبقة محدودة ، ولكنها أوسع انتشارا بين الأجيال الجديدة ، لم أر تقريبًا خلال السنوات العشر الأخيرة فتاة في العشرينات أو مطلع الثلاثينات ، إلا وكانت تتلقى علاجا نفسيا نتيجة أزمات تربوية ومشاكل طفولة عميقة .
سامح الله جيل من الآباء والأمهات أنتج للمجتمع الاف بل ملايين المرضى النفسيين .
من الظالم ومن المظلوم؟
مازلت في حيرة حقيقية تجاه "الهرشة السابعة" ، هل هو محاولة للبحث عن المثالية الزائفة في الحياة ، خرجت من العمل بتساؤلات عديدة أغلبها في اللاشيء ، لم أجد إجابة واضحة سوى في المشهد البديع لمحمد شاهين وهو حدوتة قبل النوم لطلفيه ، جوهر هذه الحياة التي نعيشها الآن هو افتقادنا للرضى، بحثنا الدائم عن الكمال والذي عادة ينتهي بنا إلى اللاشيء.
ربما لم يركز صناع العمل على توضيح تلك الرسالة بشكل مباشر وهذا جيد ، ولكن حالة الخصوصية الشديدة التي تسيطر على كافة شخصيات المسلسل بداية من الطبقة الاجتماعية مرورا بالبناء الاجتماعي والنفسي لكل شخصية ، والذي يتجلى في انفصال آباء وامهات أغلب النماذج بل وتسببها المباشر في كل العقد النفسية التي تعاني منها .
الحقيقة أن مسلسل الهرشة السابعة لم يناقش فقط أزمات العلاقات العاطفية بشكل شفاف ، لم يجنح لفكرة الظالم والمظلوم في العلاقة ، تمسك بمبدأ مهم وهو أن الحياة اختيارات ، وكل مسئول عن اختياره ومسئول أيضًا عن التخلي عن هذا الاختيار ، بل ناقش ماهو أبعد من ذلك ، فتح جرحا عميقًا حول علاقة جيلنا بآبائنا وأمهاتنا ، ذلك الجيل الذي ارتكب عشرات الجرائم في حق أبنائهم، تحت مسميات التقويم والاصلاح والتدين.
الجيل الذي لم يقدم لأبنائه حبًا سليما سويًا ، بل مغموسًا بجهل أنتج هذه النماذج التي لا تعرف جوهر العلاقات الانسانية ، ولا تملك القوة الحقيقية لمواجهة متاعب الحياة ، ولا منظومة القيم السليمة التي تمثل حارسًا لفكرة الأسرة في حد ذاتها .. تركني الهرشة السابعة في حالة ارتباك حقيقية أمام نهاية مفتوحة ومعها عشرات التساؤلات ، باستثناء جملة واحدة فقط على لسان "شريف" علي قاسم هي المؤشر الحقيقي لنجاح أي علاقة .. "أنا فاهم إن أنا عكيت الدِنيا، بس ممكن أعمل أي حاجة علشان أصلحها".