كيف تدفع المشاهد لانتظار الحلقة التالية من مسلسل ما ؟ هنا ستتحدث "الصنعة" .. أقصد صنعة الدراما التليفزيونية التي اختفت ملامحها منذ فترة بالتزامن مع دخول آليات وأفكار وربما كوادر السينما إلى الشاشة الصغيرة.
سعدنا باستخدام كاميرات وتقنيات السينما في المسلسلات التليفزيونية ، وشجعنا هجرة مخرجي الأفلام إلى عالم الدراما ، وأصبحت أسماء كُتاب السينما هي المسيطرة على تترات الدراما.
لامانع من هذا التلاحم الواضع بين العالمين، ولكن وسط هذا الزخم خفتت خلطة "أسطوات" الدراما التليفزيونية، وتاهت بعض القواعد والمفاهيم الراسخة عبر الزمن أمام ذائقة الصُناع الجدد، ليبتعدوا عامًا بعد الآخر عن ذائقة الجمهور وفلسفته وعناصر جذبه الحقيقية، وهنا ظهرت ثنائية محمد سامي ومحمد رمضان لتعيد هذه "الصنعة" المصرية الهوى إلى الشاشة مجددًا بمفردات المرحلة الحالية.
لماذا نجح مسلسل "جعفر العمدة" في الشارع وبين الناس، حتى وإن لم يبد ذلك واضحًا على السوشيال ميديا؟ بل لماذا بدأت اعترافات الجمهور حول جودة المسلسل ونجاحه تنتقل إلى السوشيال ميديا تحت شعار "بعد اذن الانترنت .. مسلسل جعفر العمدة حلو؟!"
حاول محمد رمضان أن يرضي جمهور السوشيال ميديا والنقاد على مدار العامين الماضيين، وتخلى عن الخلطة الشعبية الناجحة نوعا ما في مسلسل "موسى"، ثم اتجه ليقدم مسلسلا ذو صبغة فنية مستمعا للأصوات الكثيرة التي نادته بتغيير الجلد والارتماء في أحضان مخرجين وكتاب من أصحاب المشاريع الفنية التي تروق للوسط بشقيه الفني والنقدي ، ولكن ما الذي حدث في مسلسل "المشوار" تحديدًا؟ كلنا نعرف.
نرشح لك : نظرية "مربوحة"... هل تنتقم السوشيال ميديا من نجاح رحمة أحمد ؟!
الإخفاق الواضح في مسلسل المشوار دفع رمضان للعودة إلى ملعبه وبرفقة شريكه المفضل المخرج محمد سامي ليقدما خلطة شعبية "حريفة" لجمهور التليفزيون الباحث عن عمل مسلي ، يقدم صورة رجل أسطوري بمعايير ذكورية على هوى الشارع المصري، ثري قوي وصاحب نفوذ ، متزوج من أربعة نساء ، يفقد ابنه الرضيع ليبدأ رحلة البحث وملحمة الإنتقام ممن حرموه منه.
توابل درامية مصرية مخلوطة بحبكة جيدة ومتقنة الصنع ، في تسلسل الأحداث ، والأهم نهايات الحلقات المحكمة بدقة تجعل المشاهد ينتظر بداية الحلقة التالية.
قواعد الصنعة
هذه هي الصنعة التي أقصدها، الصنعة التي تخاطب عقلية المشاهد وفضوله ، حتى لو كانت القصة تحمل قدرا من الفانتازيا والأسطورية التي لاتشبه الناس العادية ، والحقيقة أن الدراما صُنعت لتقدم للناس قصصا تداعب خيالهم، صحيح أن مقولة "دراما تُشبه الناس البسطاء" تم صكها منذ فترة للدلاله على جودة بعض الأعمال، ولكنني لا أعرف بالظبط من الذي طرح هذه النظرية وفرضها على المشاهدين، فالمنتج الفني والإبداعي تحديدًا هو عملية تخاطب ذوق المتلقي وأفكاره وخياله وأحلامه ، وبالتالي لا مجال لفرض نوع واحد وقيم واحدة على ملايين المشاهدين، ولكن صناعة هذا العمل الابداعي يجب أن تسير وفق قواعد "الحبكة" التي تضمن متابعة المشاهد للعمل من البداية للنهاية.
الناس على المقاهي ينتظرون ما الذي سيفعله جعفر العمدة في الحلقة التالية بعد قفلة مشهد النهاية في كل حلقة ، نفس الناس تعلقت بالشخصيات الثانوية التي نالت مساحاتها بحرفية واضحة تخدم القصة وسياقها ، الناس أيضا وسعوا دائرة شكوكهم لاتهام الجميع بالتورط في اختطاف ابن جعفر العمدة.
نجح محمد سامي كمخرج ومؤلف للعمل وسيناريست بمشاركة مهاب طارق في مد خطوط درامية متنوعة وراء كل الشخصيات، وجعلها تتوازي وتتلاقى في تناسق يخدم الحبكة ويزيد من سخونتها حلقة بعد الأخرى دون ملل، فلسفة ذكرتني كثيرًا بمنهج مصطفى محرم في كتابة مسلسلاته مثل "لن أعيش في جلباب أبي" و "عائلة الحاج متولي" ، ولا شك أن هناك تشابه كبير في تيمة تعدد الزوجات بين الأخير والعمدة طبعًا.
واقعية سحرية جديدة!
نقطة أخرى هامة لم يلتفت إليها الكثيرون وهي قدرة محمد سامي على بناء عالم خاص به في كل مسلسلاته ، عالم بتفاصيله التي تميل لخياله تجاه صناعة الفانتازيا الشعبية ، فلا هذا هو شكل حواري وشوارع السيدة زينب ، ولا منازل أثريائها ومعلميها هكذا، ولكن المشاهد قبل الفكرة ، وأكمل التعاقد الذي أبرمه معه سامي من البداية، سأقدم لك العالم الذي تعيش فيه، ولكن بعيني وخيالي .
أحد العناصر الهامة في هذا العالم الذي يرسمه محمد سامي، بروز فكرتي القوة والعدل ليتجسدا في شخصية البطل ، حتى وإن اختلف بعض المشاهدين مع طريقة طرح الفكرتين، ولكنها دائمًا تحقق الاتفاق العام بين غالبية المشاهدين ، فالمصريون يؤمنون إيمانا مطلقًا بما تتيحه الشريعة الاسلامية للرجل في مسألة تعددت الزوجات، بينما النساء المتقبلات للفكرة من هذا المنظور سيعجبهم قدرة العمدة على تحقيق العدالة المستحيلة بين زوجاته الأربع بحكم سطوته المالية ونفوذه وحكمته وبالطبع تجسيده لفكرة السند ، وهذه العوامل تحديدًا تجعل فكرة التعدد مقبولة لدى نساء وفتيات المناطق الشعبية ، الأمان المادي والمعنوي، يحميه غطاء شرعي ديني، فما المانع ؟!
نرشح لك : علماء الأزهر يجيبون ... هل يمكن زواج الجن والإنس والإنجاب كما يحدث في مسلسل "المداح"؟
حتى تفاصيل شخصية جعفر العمدة التي رسم محمد رمضان ملامحها بداية من تسريحة الشعر وطريقة الكلام والملابس وتناول الشاي وتقليبة بظهر الملعقة ، هي عناصر مكملة في رسم شخصية أسطورية ، فالطبيعي ألا ينجذب المشاهد لرجل عادي بلا ملامح ولزمات متفردة غريبة .
بداية زعيم جديد .. أم ماذا ؟ّ!
قبل بدء عرض جعفر العمدة انتشر على مواقع التواصل فيديو لرجل مسن يقبل محمد رمضان في كواليس تصوير أحد الأعمال بمنطقة شعبية ، الرجل قال له بتلقائية : انت الزعيم الجديد .. كان رمضان سعيدًا بالجملة كطفل ينتظر هذه الشهادة من رجل الشارع، والحقيقة أن الفرصة أمامه بالفعل ليحقق النبوءة لو أجاد إدارة بعض التفاصيل في علاقته بالسوشيال ميديا ، وأعاد قراءة ورسم صورته الذهنية لدى الجمهور.
صحيح أنني لم أكن من متابعي مسلسلات محمد رمضان من قبل، ولا حتى مسلسل "الأسطورة" الذي كان أنجح أعماله جماهيريا قبل عرض "جعفر العمدة" ، ولكنني – بعد إذن نقاد السوشيال- وجدت نفسي متلبسًا بمتابعة حلقاته يوميًا ، ومستمتعًا بدائرة الأحداث ومتشوقًا لمعرفة النتيجة ، وربما متأثرًا في المشاهد الدرامية والعاطفية بين الشخصيات خاصة التي تنقل مشاعر الأخوة والأمومة والأبوة.
يتهم البعض مسلسل "جعفر العمدة" بأنه دراما على طريقة الأفلام الهندي ، بصراحة ما العيب وما المانع أن أشاهد فيلمًا هنديا ممتعًا ، خاصة وأن صناع العمل لم يدعوا أنهم يقدمون مسلسلا نخبويًا يناقش قضايا المجتمع وينتظر اجتماع خبراء علم النفس والاجتماع لتقديم أطروحاتهم عنه ؟!
"جعفر العمدة" ملحمة شعبية مسلية جيدة الصُنع، حدوتة مُسلية مثل الحكايات التي تُحبها ربات البيوت والرجال على المقاهي، والمراهقين المتشوقين لتدفق الأدرينالين في عروقهم. هذا هو الجمهور الحقيقي الذي يحب ويكره دون حسابات، له مزاجه وذوقه واختياراته، يبحث عن متنفس لهمومه اليومية في حواديت أسطوريه .. لكل ما سبق مسلسل "جعفر العمدة" الأفضل حتى الأن .
اقرأ أيضًا .. حوارات في الفن مع وجوه دراما رمضان :
محمد فهيم يتحدث لـ"في الفن": كيف ساعده علم النفس على تجسيد دور الصعيدي في"عملة نادرة"؟
حاتم صلاح يكشف لـ"في الفن": ماذا قال للجمهور في الشارع عندما سألوه " هو ايه اللي حصل في جمصة"؟
ولعشاق مسلسلات العلاقات الزوجية يمكن قراءة :
دليل محمد شاهين للزوج المثالي في "الهرشة السابعة"
نرجسية ... تحليل الطب النفسي لشخصية "نادين" في "الهرشة السابعة"